كنتُ كتبتُ في مساقٍ سابق(1) عن «اللاوعي القَبَليّ»، وهو ضربٌ من التركيب النفسيّ خاصّ بالعرب، ينضاف إلى ما لدى البشر عمومًا ممّا سمّاه سيجموند فرويد ب(اللاوعي الفرديّ)، وما أَرْدَفَ به كارل جوستاف يونج حول (اللاوعي الجمعيّ)، ويأتي كطبقة وسطى، تستيقظ داخليًّا، أو تُوقَظ بحوافز خارجيّة. ومع التسليم بخطورة ذلك أحيانًا في تركيبة الشخصيّة العربيّة، فإن العصبيّة القَبَليّة ليست بأخطر في كلّ حالٍ من عصبيّات اجتماعيّة وفكريّة أخرى. إذ لو صيغ السؤال على النحو الآتي: هل القَبَلِيَّة عنصريّة بإطلاق؟ لبدت الإجابة: كلاّ، وإنما ينصبّ جامُ تعصّب القبيلة على خصومها ومَن كانت بينها وبينهم الثارات. في حين قد تبدو المناطقيّة، والقُطريّة، والإقليميّة، والمذهبيّة، والطائفيّة، أشدّ من القَبَليّة تعصّبًا وإقصاء للآخر، وكذلك الشأن لدى الحزبيّة، والتيّاريّة، وسائر الانحيازات الفكريّة أو الأيديولوجيّة.
لماذا؟
لأن التعصّب القَبَلي- فيما عدا ما ينبعث منها جراء الصراع القبليّ- إنما يقوم على اعتقاد صفاء أصلٍ وفصلٍ ما، واختلاط أصلٍ وفصلٍ آخرَين، وأن بعض القوم من «ضِئْضِئ الشَّرَف» بمكانٍ صافي الدم نقيّ النسب، وبعضهم دون ذلك بدرجة أو بدرجات، وهو ما قد يؤثّر في العلاقات الاجتماعيّة من تزاوج ونحوه. وما قضايا تكافؤ النَّسَب التي عصفتْ ببيوتٍ وأُسَر في السني المتأخرة من هذا الفكر القَبَلِيّ البدائيّ والجاهليّ المشار إليه ببعيد. إلاّ أن هذا الفكر القَبَليّ- على سوئه ولا إنسانيّته- قد لا ينفي عن الآخرين بالضرورة مكاناتهم الذِّهنيّة والنفسيّة والعِلميّة والجماليّة والدِّينيّة والعَقَديّة، كما يحدث في ألوان العصبيّات الأخرى. فإذا كان التعصّب القَبَلي قائمًا على التعصّب لرابطة الدم، فإن التعصّب القائم على رابطة الفكر، المتلبّس باعتقاد تميّزٍ قيميّ، إقليميًّا كان، أو قُطريًّا، أو مناطقيًّا، أو مذهبيًّا، أو طائفيًّا، أو أيديولوجيًّا- وبالجملة أيّ توجّة «مُتَيَّر»/ أي مندغم في تيّارٍ ذهنيّ- هو الأخطر؛ لأنه يجتثّ الطَّرَف الآخر من قِيَمه وقيمته كإنسانٍ مساوٍ، ويضفي على نفسه هو القداسة، التي تصل إلى درجة اختزال الحقّ المطلق في نفسه، وتجريد الآخرين مطلقًا من أيّ حقّ. وهو- والحالة هذه- لا يتعلّق بشؤون الدنيا، بل يشمل الدنيا والآخرة معًا، والجنة والنار، والناجي عند الله والضالّ عن سبيله/ الهالك؛ ممّن مأواهم جهنّم وبئس المصير! وعندئذٍ لا يُصبح الأمر متعلِّقًا بموقف فئةٍ من فئةٍ، بل بموقف فكرٍ من فكرٍ؛ وبذا سينشب بينَ الأخ الشقيق وأخيه، والأب وابنه، والمرء وزوجه، النزاعُ المريرُ والفصامُ، ليفكّك الخلافُ أدقّ العلاقات الإنسانيّة بين خلق الله، حتى في داخل الأُسرة الواحدة. بل قد يصل الأمرُ إلى الطبيعة المحيطة التي خلقها الله، وذلك بكُره بلدةٍ لكُره أهلها، واحتقار أمرٍ لارتباطه بمخالفين في التيّار، وإنْ كان لا علاقة لذلك بموضوع الخلاف، غير أن التلازم يجعل المريضَ ببُغض تيارٍ مخالفٍ يُبغض كلّ ما يتصل به، أو يُذكِّر به، من قريبٍ أو بعيد.
وهذا النزوع الثقافيّ هو ما يُطلق عليه لدينا مصطلح: «الخصوصيّة»، وما أدراك ما «الخصوصيّة»! تلك الخصوصيّة التي تُلبس عباءة الدِّين، مع أن الإسلام إنما جاء- فيما جاء- ليمحو فكرة «الخصوصيّات» محوًا من الذاكرة، ويلغيها إلغاءً من المجتمع. الإسلام الذي جاء إلى الناس كافّة، بل خاطب الإنس والجنّ، وأَخْبَرَ أن هدف رسوله أن يكون رحمةً للعالمين، لا يعترف فلسفيًّا بحكاية «الخصوصيّة»، بل بالعالميّة. فأيّ خصوصيّة عادت لدينا جذعة؟ حتى إنك لتسمع- حين يَرِد الكلامُ على سماحة الإسلام، وشموليّته، ومساواته، وعالميّته، أو عن أمورٍ إنسانيّةٍ لا تتعارض مع الدِّين، بل لعلّها ممّا حثّت عليه الشريعةُ قبل غيرها، إنْ في كتابها أو من خلال سنّة نبيّها الصحيحة- تسمع صوتًا نشازًا يخرج عليك فجأةً «متوقّعةً» ولا بُدّ أن يطلع عليك متردّدًا من جهة، واثقًا من أخرى، متهوِّكًا من جميع الجهات: «نعم.. لكن نحن لنا خصوصيّتنا...»!
أيّ خصوصيّة في رأسك، يا ابن الحلال؟!
إنْ هي، إذن، إلاّ خصوصيّة الجاهليّة، من العادات والتقاليد، التي يُراد أن تُشرعَن كما شُرعِن غيرها من الأعراف والعادات والتقاليد، فصارت دِينًا رديفًا، بل زوحمتْ بها أحكامُ الشَّرْع وعدالتُه ومنطقيتُه وإنسانيّتُه المطلقة؛ لأن لا خصوصيّة في الإسلام، بل شموليّة، وإنسانيّة، وعالميّة، فلا قُربى بين الله وخلقٍ من خلقه- كائنين من كانوا- إلاّ بالتقوى! تلكم، إذن، خصوصيّة (أبي جهل) و(أبي لهب)، إذ احتجّوا على المنهج الجديد بأن لهما خصوصيّةً، ولمجتمعهما خصوصيّةً، ولقريش خصوصيّةً، ولمكّة خصوصيّةً، وللعرب خصوصيّةً، وللجزيرة خصوصيّةً، ولا بدّ من مراعاة تلك الخصوصيّات جميعًا، التي وَجَدُوا عليها آباءهم عاكفين.. نعم، لا بدّ من مراعاتها واحترامها حتى من ربّ الخصوصيّات والعموميّات! فكان ممّا قالوه- كما أخبر القرآن عن ثقافة الخصوصيّة الأبويّة لديهم-: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً، قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا، وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا، قُلْ: إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء، أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ؟!»(2) ويُلحظ هنا التدرّج في احتجاج القوم: «وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا»، أي: أنها من عاداتنا وتقاليدنا وخصوصيّاتنا.. لكن ذلك لا يكفي، بل لا بُدّ من إلباسها قلنسوة القداسة، حتى يُحكَم المزلاج على أيّ محاولةٍ للنقاش حولها، مضيفين: «وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا».. انتهى! وهل يُطيق أحدٌ أن يُجادل في أمرٍ أَمَرَ به الله؟! وهم يعلمون قبل غيرهم أنهم كاذبون، لكنهم يعلمون كذلك أن العقل قد يتساءل، فلا سبيل إلى إسكاته إلاّ بأن يَكْذِبوا، ليَكْسَبوا العامّة من الناس إلى جانبهم- على أقلّ تقدير- بتغليف الأمر لهم بأمرٍ إلاهيّ، واجب الاتّباع. ومِن ذلك كذلك احتجاجهم- للتملّص من الحقّ- ب»الفتنة»، وهي كلمة زئبقيّة يُقحمها أحدهم في خطابه حين يريد المراوغة من مواجهة العقل والعدل، فإذا هو يرفع بطاقة «الفتنة»، للتخويف من مجهولٍ قد يقع، على طريقة مَن وَصَفَ القرآنُ ألاعيبهم الشعاراتيّة في قوله على لسانهم: «وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِّي، وَلاَ تَفْتِنِّي، أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ.»(3) وهي طرائق تفكيرٍ نمطيّة، تُلحظ في كلّ مجتمع حين يحاول أهله أن يجادلوا الحقّ والعدل لتكريس قِيَمهم الخاصّة، أو الموروثة، مهما خالفتْ العقل والدِّين، وتخطّاها العصر، وتجاوزتها الأجيال. يقول القرآن في تعرية هذه العقليّة الاجتماعيّة البائسة، كاشفًا عن شريحةٍ اجتماعيّةٍ تقليديّة- ما زلنا نعاني عنادها وأغاليطها اللغويّة إلى اليوم: «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون».(4) «بَلْ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون»(5) «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ، قَالُواْ: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ؟!»(6) «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ، وَإِلَى الرَّسُولِ، قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ؟!».(7) «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ، قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا، أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ؟!»(8) فالثقافة- كما تخبرنا هذه الآيات المتكرّرة- ما تنفكّ تنطق عن الهوى، والأبويّة تستعبد المجتمعات، وإنْ كانت أبويّة شيطانيّة تدعو أبناءها وأحفادها إلى هاوية السعير! وهي تبعيّات وتقاليد تتحوّل إلى عقائد، «قَالُوا: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ؟ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِين.»(9) وليَلحظ القارئُ هنا التعبير ب»تلفتنا»؛ من حيث إنهم لا يطيقون حتى «الالتفات» إلى فكرةٍ ما لم يكونوا قد ورثوها عن أسلافهم، كما لا يجوز لمصلٍّ أن يلتفت في الصلاة! مع أن الأصل أن يدور تلفّت الإنسان مع الحقّ والحكمة، حيثما وُجدا، على حدّ قول أبي الطيّب:
وَلَستُ أُبالي بَعدَ إِدراكِيَ العُلا
أَكانَ تُراثًا ما تَناوَلتُ أَم كَسْبا
بيد أن اعتناق الخصوصيّات والموروثات يحول بين المرء وعقله!
***
(1) صحيفة «الجزيرة»، 5 ذو الحِجّة 1431هـ= 11 نوفمبر2010م، العدد13923، ص28. وعلى الرابط:
http://khayma.com/faify/index245.html
(2) الأعراف: 28.
(3) التوبة: 49.
(4) الزخرف: 23.
(5) الزخرف: 22.
(6) البقرة: 170.
(7) المائدة: 104.
(8) لقمان: 21.
(9) يونس: 78.
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
64
الرياض