يمكننا التعاطي مع الكثير من العوامل والظروف - التي تدفع كضرورة أو تغوي كأسطورة - كاتباً مثل عبدالعزيز للأنغماس في فتنة «نستلوجيا» استعادة الماضي أو الحياة اللصيقة بطفولة الكائن من خلال النقاط التالية:
المخيلة التشكيلية التي نمت في أحضان القرى الجبلية والتي صبغت وجدانه بحساسية اللون والإيقاع.
حوامل الثقافة الشفوية المحفزة على الإصغاء والنقل وإعادة الصياغة والسرد.
تعايش الأجيال بحكم المشترك الحياتي وغنى بيئته الخاصة بممكنات التعرف المباشر على شخصيات متعددة الملكات السردية تلتقي في منزل «الجد» بحكم مركزه العائلي والوظيفي كشيخ للقرية، ولعل هذا المحيط قد استحثه منذ الصغر على التأمل في مفارقات الحكاية وتحسس المعنى الأبعد خلف المظهر الساخر لها.
حضور المرأة في كل مناحي الحياة وقيامها بدورها كشريك كامل في إنتاج الخيرات مما يسهل عملية الكتابة السردية عن المناخ القروي و»شخصنة» أبطاله في سياق موضوعي وفني متوازن.
صدمة المدينة وانكسار وعودها البراقة.
تداعيات المرض القاسية عليه حيث لم يعد يستطيع ممارسة حياته الطبيعية في المدينة، إضافة إلى فقر الحياة الاجتماعية ذاتها في المدينة وسيادة نمط البنية المغلقة المكتفية بذاتها، والمهددة - وبسطوة عالية - لحواضن الإبداع وفضاء تفتحه وحرية حركته.
وبدون قسر لمجالات التحليل يمكننا أن نعد كل المدونات السابقة أو بعضها كافياً للإشارة إلى دافعية الكتابة عن القرية، ولكن، وللإنصاف الموضوعي لا الحقوقي، سأعيد تركيب الصورة كما أعرفها وكما تبدت في أعمال عبدالعزيز وما كتبه عنها، حيث كان ينشد - في تلك العودة - استحضار أنماط حياة وقيم وذاكرة هي أكثر رقياً من أنماط حياتنا الآن، ولذا يغدو التشبث بأجمل ما فيها ملاذاً للفنان من يباس الحياة الاجتماعية في المدينة، كما تسطر استعادتها بعداً أخلاقياً وأفقياً جمالياً ينقذ ضمير الكاتب من الوقوع في فخاخ النسيان أو عبثية اللامبالاة.
والتفات عبدالعزيز إلى خصوبة عالم القرى، بعد خروجه من مرحلة التأمل ومراجعة تجربة «موت على الماء» وما قبلها، يسّر له تجاوز إشكالية طغيان الكلمات على الأفكار التي قال عنها «جوته» ساخراً: «عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائماً بكلمة تحل محلها!». وهنا يتم استعادة مخزون الذاكرة الحميم، أفكاراً وكلمات، ضمن نسق رؤية ومشروع يدخل فيه «النستالوجي» والتسجيلي والأحتفائي، والفكري أيضاً. وقد بدأ هذا المشروع في القاهرة حيث كتب روايته الأولى التأسيسية لذلك المنحى «الوسيمة» عام 82م حيث اطلع عليها الروائي صنع الله إبراهيم وشجعه على استثمار مناخاتها في أعماله الأخرى، وقد أجابني عبدالعزيز في حوارنا المطول - والمنشور في كتاب «ابن السروي وذاكرة القرى» - عن تأثير القاهرة عليه والالتفات إلى القرية بما يلي:
(القاهرة أو غيرها من العواصم العربية ذات مساحة تستوعب الكاتب والكتابة والقارئ والمستقصي.. لكنها جميعاً لا تمنحك الهم الخاص الذي تكون مع هويتك وانتمائك الخاص.. هي تمنحك عالماً غير منقسم في إنسانيته.. فالإنسان الكامل برجولته وأنوثته موجود، وهذا ما أفتقده في واقعنا، لذلك ربما فتحت عيني على هذا الوجود الطبيعي للمرأة في الحياة الذي يشبه زمن الطفولة القروي لدى كل إنسان، وربما حفزني ذلك على العودة إلى العالم الطبيعي.. العالم السوي حيث يقف الرجل والمرأة على قدم الإنتاج المشترك والمساواة الإنسانية في كل مناحي الحياة).
ولعله من المناسب الإشارة هنا إلى ما يطرحه بعض الكتاب من تساؤل وقلق حول مغزى التركيز على عالم القرى باعتبارها تشكل نسقاً ثقافياً شفوياً غارقاً في عتمة اللاعقلانية والانغلاق والانتماء الضيق، على العكس من انفتاح المدينة الكوني وانتماء ثقافتها إلى الثقافة المكتوبة.
وبدون ذهاب في التفاصيل أشير إلى حقيقة أن مدننا، التي تشبه كثيراً مدن العالم المتقدم بما تتمتع به من بنية تحتية، لا تشبه تلك المدن في حياتها الاجتماعية، وبكلام يقترب من سخرية الحقيقة يمكننا اعتبارها أشد محافظة من حياة القرى وأكثر قسوة إزاء حرية الفرد والرأي ومشاركة المرأة من تلك المجتمعات القروية. ولذا فإن مشروع عبدالعزيز يستهدف الحفاظ على تلك الجماليات المتقدمة، لا بمداد التخييل وحده، ولكن بمداد حرارة معايشته التجربة والاندماج في تفاصيلها، وقد أوضح ذلك في نفس الحوار المذكور حيث أجابني على سؤال حول مشيخة القرية وبرلمانها الأسبوعي فقال:
(أعرف أنك قد عايشت تلك القرية التي كانت برلماناً تلقائياً شديد الإنصاف، في ساحة مسجدها يوم الجمعة.. حيث كان الجماعة بعد أداء صلاة الجمعة.. يخرجون جميعهم من باب المسجد يسبق كل إلى مقعد أو متكأ على «الحجيرة» المحيطة بتلك الساحة، يستمع للجدي د والمطروح.. واحدٌ يشتكي من التعديات البهائمية والآخر يشكو من مظلمة زاهق في مزرعته، وثالث يدعو الجماعة لعزيمة زواج ابنه أو دعوة ل» طينة» سقف البيت الحجري الذي بني ونما بين عيون الكل.. هل رأيت كيف كانت تأتي المرأة ملفوفة بالبياض ملثمة وفي يدها بنتها أو ولدها الذي مات أبوه وتركهم في أمانة الجماعة دون وصية، وكالعادة.. سيقف الكل مع حقها في البيت والوادي وسبيل الطريق ومجرى ماء المطر إلى مزرعتها.. فمن مد يده أو زهقت رجله أو لسانه.. فإنما يجري (العرف كقانون) عليهم جميعاً!).
وهكذا ركزت رؤية الفنان بحساسيتها العالية وأندماجها الحقيقي في عملها على مشروع مقاومة الموت والنسيان من خلال محورين متداخلين أولهما إبراز دور المرأة وحضورها العملي والإنساني في الواقع القروي بمشاركتها الكاملة في عملية إنتاج الخيرات والخبرات والثقافة، وثانيهما استعادة روح الجماعة الواقعية التي صنعت قوانينها بفعل التعاقب فاحترمت للمرء فرديته وخصوصيته وحقه في إبداء رأيه وتحمل تبعاته، وزاوجت بين ما هو فردي لصيق بخصوصية الفرد وما هو جماعي، بأن جعلت من أعرافها - المنبثقة من علاقات المعاش وإنتاج الخيرات في كنف الطبيعة نسيجاً من العادات والتقاليد الملزمة، لمن يود التمتع بحقوقه من مظلة العمل الجماعي، والمفتوحة أمام من أراد الخروج عليها!.
عالم المرض والمستشفيات:
بحميمة تبلغ ذروة الانفعال يعايش عبدالعزيز تفاصيل حياته قراءة وكتابة ورسماً، وحين يتحدث مع الآخرين فإن إيمانه بما يقول، كان كافياً لدفع جيش - بدون عتاد - لخوض معركته بدون تردد، كما أن يقينه الملموس باليدين كان يدله على أن الحياة توجد، لا في مكان آخر، ولكن هنا، حيث يخفق قلبه بالتفاؤل وحب الحياة رغم أنه كان يمشي مدفوعاً بكرسيه النقال أو محمولاً بين يدي «أخيه الجميل دائماً» أحمد. و إذ يكتب باحتفائية حارة عن التفاصيل الكبيرة والصغيرة في ملحمة عالم القرى الآيل للنسيان، فإنه يسجل سردياته عن المرض والمستشفيات بعين تأملية ونقدية ساخطة رافقت المراحل الأولى لصدمة المرض والتعايش القسري معه، ثم ما لبثت الكتابة أن استعادت ألفتها وحميميتها مع اعتياده على المرض واعتباره شيئاً طبيعياً كالذهاب إلى الحمام أو مزاملة الأرق الليلي، أو معايشة جارٍ مزعج ما من جيرته بدّ، ليتحول المرض وفق هذه الرؤية إلى ملحمة أخرى موازية لملحمة القرى.
ولذا لم تكن الكتابة عن المرض والمستشفيات رسالة «ألم» حالة فردية خالصة وحسب، ولكنها كانت كشفاً عن معاناة جماعية يتداخل فيها الصحي والنفسي والمكونات الثقافية والروتين الوظيفي، وما يصاحب السلوك البشري من تجليات القوة والضعف والقبح والجمال. وهنا تصبح قناني الدواء، ولمعان واجهات المستشفيات، وشدة روائح المطهرات، وأنين المرضى وتدافع المراجعين، وبياض الأسرّة وملابس الممرضات، وابتسامات الزهور وذبولها، ورهافة الضحك وحرقة البكاء، وجمر الحياة ورماد الموت، وبتر أصبع يده، وقدمه اليمنى، وساقه اليسرى، كلها، عالماً أليفاً ومعتاداً يندمج عبدالعزيز في الانفعال به والكتابة عنه كحياته الطبيعية، كما تتم في تفاصيل هذه الكتابة إزاحة التسمية الأنيقة «لوزارات الصحة» - المعتمدة في كل أنحاء العالم - عن مواقعها واستبدالها بمسماها الحقيقي «وزارة المرض».
وبذلك الإنتاج الخصب تغدو ملحمة المرض والمستشفيات «زهوراً من آنية للكتابة» - متفردة في حقلها محلياً وعربياً - لا يستمتع بقراءتها المهتمون وحسب، ولكن سيقرأ فيها المتعبون جمال الإرادة الإنسانية المدهشة ودلالة القوة التي لا تشبه إلا عبدالعزيز الذي وجد نفسه منغمساً في فتنة الكتابة عن مناخين يسيران صوب النهاية، نسياناً أو موتاً، فكان عليه أن يقبض على ما يتبقى منهما.
تلويحة
لقد تعلم عبدالعزيز من تجربة «أنكيدو في ملحمة جلجامش» أن الخلود لا يتحقق بالبحث عن عشبة الحياة الدائمة، لذلك أجهد نفسه ليجدها في الكشف عن لحظة من معاني الحياة وجماليات الأشياء والأشخاص والسير به نحو الخلود في الكتابة.
حقاً، لقد عاش كما يليق بمبدع نبيل ورمز أنيق، وسيبقى في نبض حروفه حاضراً كأثر لا يمّحي، ولو أن أحداً يستحق استعارة هذه العبارة من صاحبها لكان عبدالعزيز أول من سيرفع صوته بها قائلاً:
« أشهد أنني قد عشت»!.
الدمام