هذا العنوان هو عنوان مجموعة شعرية للأخ الأديب الشاعر الأستاذ محمد رضي الشماسي وهو كما يقول مقدم الديوان الأستاذ الشاعر السيد عدنان العوامي الذي أصر على نشر هذا الديوان على غير رغبة من الشاعر:
(أما لماذا لا يرضى أستاذنا الشماسي عن كشف هذه الحقيقة، فلسجية أصيلة في وجدانه حرمت المكتبة العربية من أدبه وشعره طيلة هذا الزمن المديد، تلك السجية هي التواضع، ونكران الذات، والزهد في البروز، فمنذ أمد، لا أذكر له بداية، والعديد من محبي صاحبنا يلحون عليه بنشر شعره ونثره، وهو يراوغهم، متعللاً بأن ليس لديه ما يستحق النشر، إلى أن أقدمت على ما لم يخطر له ببال، فقد فاجأته بعزمي على نشر ما لدي من شعره. دون اكتراث لمشيئته. فإما أن يذعن لرغبة أحبته، وواجبه الوطني، فيمدني بما يرغب في نشره، مستفيداً من حقه في حجب ما لا يرتضيه، وإلا فسوف أتوكل على الله، وأدفع بما لدي إلى المطبعة، وليكن، بعد ذلك، ما يكون). وأنني أجد الصدق فيما ذكره الأستاذ العوامي لمعرفتي بما يتمتع به شاعرنا الشماسي من التواضع، وهدوء النفس، ولطافة المعشر إلى جانب الحياء الأصيل والأدب الجم وخير دليل على ذلك ما جاء في المقدمة التي كتبها لديوانه ومنه قوله:
(عشت، وما زلت أعيش، مع الكلمة في نثرها وشعرها، في عالمها الأدبي بكل فنونه وفتونه، تشدني فيه الفكرة الشاردة، واللمحة الخاطرة، واللفتة النادرة. شأني، في هذا، شأن من امتهن الأدب حرفة، واتخذه صناعة. نعم، أدركتني - إلى حد ما - حرفة الأدب التي لم يكد يسلم من تبعتها أديب، والأديب - كما قالوا - خير له من أدبه (القرص والكامخ). ولعل خير دليل على صدق أحاسيسه وتوهجه الشعري هي تلك المقطوعة التي افتتح بها الديوان وهي قوله:
أي جدوى في الشعر حين عناده
والقوافي أزمة في طراده
أي جدوى والشعر يختلس الشا
عر نبضاً من فكره وفؤاده
تترامى النجوم بين يديه
فإذا هن أحرف في مداده
ولما كان العلم هو أهم أدوات الشعر التي يصوغ بها الشاعر عباراته ويرسم كلماته ويقدم صوراً لا يستطيع غيره أن يأتي بمثلها يقف مع القلم حين يختال أمامه بما يبدع من رسوم أراد الشاعر أن يجسدها في حروف وكلمات تنبع من القلب:
طاف بي راكباً على صهوة الحر
ف جموحاً يختال في عنفوانه
ومدى أفقه الرحيب خيال
سابح، والجمال قيد عنانه
وإلى شأوه البعيد اشرأبت
فكر شرد بسحر بيانه
يستطيب الرؤى الجميلة نبعا
عبقرياً ينساب في ألحانه
في هذه الأبيات يقدم الشاعر صورة لذلك الجواد الجموح الذي بدلاً أن تطوعه الكلمات تجده يطوع الكلمات وينضد العبارات ويسكبها في مصاريع وأبيات تتناغم مع ما يريده الشاعر من الألحان وهو يصف العلاقة الحميمة بين الشاعر أو الكاتب وبين القلم الذي يعتبر الأداة التي يؤسس بها لإبراز الفكرة التي يرغب إيصالها لقراء أدبه وفنه.
أن القارئ عندما يفتح صفحات هذا الديوان ويتجول بين قصائده ويمتع نظره بالتنقل بين أغراضه الشعرية من الغزل إلى التهنئة إلى المديح إلى المراثي يجد شعراً رائعاً لا فاصل بين أغراضه فإذا واصلت استجلاء ما ديجته يراعه الشاعر من ذلك الفن الرائق، حيث تتدفق العبارات في سهولة ويسر طرية عذبة لا تستطيع أن تفاضل بين الغزل.. والرثاء، حيث يتأكد القارئ أن أياً منهما يستل من نمير واحد فتعال نقرأ هذا المقطع من مرثيته للأديب الراحل: محمد سعيد الجشي رحمه الله:
فإذا الدموع على يراعك نغمة
نشوى تطوف على الجفون مراودا
وإذا العرائس في خيالك راودت
مغناك ألفيناك ثم مراودا
تشدو، وبين يديك أشتات الرؤى
هزجاً تطرب، أو تسلى فاقدا
يتفيأون خيال شعرك مترفا
عذباً كأنسام الخميلة صاردا
ينتظرونك، والمحافل حشد
قم حي حفلاً من نديك حاشدا
حدث عن الشعراء في تكريمهم
بالخلد حيث تعيش عيشا راغدا
حدث عن الشعراء تخضل الدنى
أرجا، وتزهو أنعما، ورغائدا
حدث، فكم ناغيت سامقة الذرى
وندبت فيه أكارماً، وأماجدا
ولا حب أن أغادر هذا المسار الشعري قبل الوقوف على مقدمة مرثية الصديق العزيز السيد علي بن السيد باقر العوامي الذي توفي في يوم 14 من ذي الحجة سنة 1422هـ جاء فيها:
حلفت بالشعر هذا الشعر ما ندبا
إلا الذي من هوى الأوطان قد شربا
ومارس الحب بعضا من شعائره
تقدس الحب إيماناً ومحتسبا
الحب للأرض شيء من مبادئه
فما استعار بها جاهاً ولا لقبا
وما استراح إلى نعمى وعافيه
من أجلها، أو تشرى باسمها رتبا
لو شاء أن يملك الدنيا أخو طمع
أو هى الضمير وماتت عنده الرقبا
ولقد حاولت بقية قصائد الرثاء أن تصرفني عمّا حفل به الديوان من أغراض زاهية فعلكم قرأتم قبلي، بل استمعتم إلى هذه المراثي - قصائد التابين وهي تنساب عذوبة تسابق حروف الغزل.
ولئلا أطيل على القارئ الكريم سوف أعود به لتصفح معاً بعض ما جادت به قريحة هذا الشاعر الحبيب المحبوب في شتى أغراض القصيد، فها هو يخاطب الحبيبه: تحت عنوان (حبيبه):
أراك عند الفجر نبع السنا
وفي جمال الصبح نبع الجمال
وفي اكتمال البدر لألاءه
كأنما حسنك سر الكمال
أرنو إلى الأنجم مستفسرا
إن كان في الأرض لها من مثال
أجابت الأنجم: كل الذي
تراه فينا صورة أو خيال
من حبك المعشوق يا شاعراً
فهو السنا نبعاً، ونحن الظلال
وعندما يركب الطائرة في أحد أسفاره تقدّم له المضيقة فنجان القهوة فبقول:
مر بي والقهوة المرة شهد في يديه
شادن يسقي من (الدلة) لا من مقلتيه
كيف يسقي المر من يحلو الهوى في جانبيه
عجباً يمزج راحاً ولظى في راحتيه؟
ليتها، وهو يساقي،قد أتت من شفتيه
ومنها هذه الخماسية التي يقف فيها في صف الفنجان الذي تتعاقب فيه المرارة والحلاوة:
صب في الفنجان مرا، فإذا بالمر يحلو
وإذا الفنجان ينسى لسعة المر، ويسلو
وإذا المرة شهد، مجها من فيه نحل
يرسب الإغراء في فنجانه طوراً، ويعلو
كم يروق الشرب من فنجانه، نهل وعل
ولولا خوف الإطالة لأوردت القصيدة كاملة لما فيها من عذوبة ورقة وما احتوته من صور جميلة.
ونقف مع الشاعر حيث يحكي لنا طرفاً من تجربته في التعليم عندما كان محاضراً بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن فيصف بعض ما يحدث في الفصل:
ترى الفصل عندي مثل مشتجر القنا
إذا شع رأي من ذكي، ومن طَبّ
حوار، فإن أدلى بثاقب فكرة
حصيف كما يدلى الرشاء إلى غَرَب
ونور تلميذ برفع بنانه
يسائل في (القاموس) عن لفظة (الأدبِ)
وآخر منهم يستبين مناقشا
عن (الصرف والممنوع) في الرفع والنَصبِ
أو الوضع في (التعريب) عن مستدقة
عن (النحت والتركيب) في صيغة الكُتَبِ
تنور أفق العلم من ثاقب الحجى
وأورق جدب من عهاد، ومن صَوَبِ
فسقيا لأهل العلم، والفكر، والنهي
ورعياً لهم من شاعر مشفق حَدِبِ
ولا يختم الديوان قبل أن تعود به الذكرى لأيام الصبا عند كان يافعاً نال الشهادة الابتدائية. ولم تكن في المنطقة الشرقية سوى مدرسة الإحساء (المدرسة الأولى) التي افتتح بها قسم ثانوي عام 1367هـ فارتحل إلى الأحساء لإكمال دراسته الثانوية وخلال فترة الدراسة تكونت علاقات حميمة وصداقات ومعلومات ثرة، حيث وجد في أصدقائه من الأحسائيين خير الأصحاب ومجتمعهم من خير المجتمعات التي تكرم الضيف وتعده واحداً من الأهل (أو أحد أفراد الأسرة) فيستعيد ذلك في قصيدة طويلة تحت عنوان (الأحساء) جاءت مقدمتها هكذا:
ذكروا الأحسا فغنت طربا
نفسي الولهي لأيام الصبا
ذكروا الأحسا وقد شوقني
أن أراها جنة نفح الصبا
ذكروها فانتشى قلبي الذي
ما غفا عنها، وما قط نبا
ذكرها المعسول بالحب جوى
في فؤادي لم يزل ملتهبا
كلما عنت لقلبي دغدغت
في هواه البكر هاتيك الربى
واستثارت غافي الشوق الذي
قد صبا شوقا لها فيمن صبا
أي ذكرى والصدى في خاطري
نغما عذبا رفيقا مطربا ؟
وقد تجاوب مع هذه القصيدة الشاعر الأحسائي المبدع جاسم الصحيح بقصيدة طويلة على نفس الروي والقافية قال في مقدمتها:
ما دهى شعرك حتى نضبا
نبعة الثر وماضيه نبا
يا بين أحساء المعالي شرفا
حي من حيا رباها الحقبا
حي من أهدى لها أضمومة
في أصيص الشعر ماست طربا
وقصارى الجهد أن تزجى له
مثلها لن تستطيع ألا طيبا
وبعد قارئي العزيز.. لو أردت أن أقف عند كل زهرة من زهرات هذا البستان الأفيح الباسقة أفنانه المتفتحة أزهاره لطال بي معه المقام ولاستحوذ هذا التنويه على الكثير من صفحات الثقافية لذلك اكتفي حيث أدرك شهر زاد الصباح.
الرياض