لقد أخذنا على الراحل د. محمد عابد الجابري تمييزه الشهير في ممارسته النظرية الإبستمية: بين الشغل المعرفي والتوجه الأيديولوجي لتجنب التصنيفات الأيديولوجية والسياسية، وذلك من خلال سعيه إلى تقديم نص يُقرأ ما بين سطوره طموح إلى الانزياح عن مألوف عادات التفكير ونظم التعبير، نص يهدف إلى تقديم رؤية تنويرية تفكك نظم العقل السائدة.. لكنه يعتبر أن هذه التصريحات التي يدلي بها بين الفينة والأخرى ضد العلمنة أو عن صلاحية الدين الإسلامي لكل زمان ومكان ما هي إلا نوع من التكيف وترتيب العلاقة مع الجماهير المؤمنة المتدينة مراعاة لمشاعرها وأحاسيسها، وهو ما يلمح به هنا وهناك، لكن بدا أن الجابري غالى في مداراته للرأي العام حتى بدا وكأن ثمة تنازلات للرأي العام أكثر مما كان على العميد طه حسين أن يفعله رغم عنف تجربته الانشقاقية العصيانية الكبرى التي قام بها في كتابه في الشعر الجاهلي، عندما قام بأكبر عملية فك ارتباط مع الموروث العقلي والمخزون النفسي واللاشعور الثقافي الجمعي الجماهيري، ومع ذلك كان يجد دائماً الوسيلة لتطبيع العلاقة مع هذا الوجدان، وذلك عندما أقام حاجزاً حديدياً بين العلم والدين، وميز تمييزاً واضحاً بين نسق العقل ونسق المشاعر، فكان في بحثه العلمي لا يقبل إلا بشروط العقل ولا يقدم أي تنازل مهما قَلّ شأنه، لكن مع ذلك كان طه حسين قادراً - عبر الحوار مع نسق المشاعر - على أن يتواصل مع الوجدان الوطني بموروثاته التراثية والدينية للحفاظ على أقنية الحوار والمشاركة والتفاعل؛ فظل محافظاً على مكانته الكبيرة وشأنه المعنوي الرفيع في التأثير على الرأي العام..
إن الانشقاق العقلي عن العقل الجمعي لم يَحُل بين طه حسين والتعاطي مع نسق المشاعر ومثالاته الفانتازية ومباهجه الروحانية العذبة.. وذلك عندما استحضر ولادة النبي وسيرته الذاتية من خلال هذه الفيوضات الميثولوجية الساحرة في كتابه المفعم بشعرية الميتافيزيك: (على هامش السيرة)، وهو ما توقفنا عنده في كتابنا الصادر السنة الماضية في القاهرة (2009) تحت عنوان (طه حسين رائد الليبرالية العربية).
لكن المقارنة بين مشروعي الرجلين تومئ في شدة درجة تمايز انشقاقهما عن الرأي العام، إلى تمايز السياقين: السياق الليبرالي لزمن مشروع طه حسين.. والزمن الشمولي لزمن مشروع الجابري؛ ولذا كانت ضغوط الزمن الأول (ناعمة) حيث كانت مرجعيتها في المآل القضاء برمزية القاضي (محمد نور) الذي برأ طه حسين.. بينما ضغوط الزمن الثاني زمن الجابري فهي ضغوط التكفير والتخوين متوجة بالسكين تحتزّ عنق نجيب محفوظ..
طبعاً ثمة قراءة يمكن أن ترى في مشروعه وعياً أكثر اتساعاً وعمقاً وكثافة معرفية بالموضوع التراثي من التراثيين أنفسهم، وذلك عندما يكشف عن الجوانب العقلانية في هذا التراث بوصفه منظومة وليس أشتاتاً، حيث يمكن أن يخلص المتلقي إلى أنه يسعى لتبيئة العلمانية جوانياً، من خلال الكشف عن أن العقلنة تشكّل عمقاً تراثياً للعلمنة في التراث العربي، وعلى هذا فهي ليست بدعة أو اختراعاً أو استيراداً كما يُقال، وعلى ذلك يكون الجابري قد قام بعملية تبيئة للعلمنة من خلال التركيز على بُعدها المعرفي والثقافي في صورة العقلانية، وذلك من خلال حفره اركيولوجيا في مكونات العقل العربي لإمساك جذور العقلانية تراثياً، وإذا كنا من قبل لسنا متحمسين لمثل هذه القراءة.. لكنا نسارع اليوم للقول: إن ذلك ما تحقق على أرض الواقع بغض النظر عن النوايا التي لا يعرفها إلا صاحبها، وذلك من خلال الدور التنويري الذي لعبه مشروع الجابري على مستوى وعي النخب الإسلامية - بما فيها نخب الإسلام السياسي - حيث شكّل مشروعه جسراً لعبور الكثيرين منهم إلى الحداثة والمصالحة مع العلمانية كمدخل للمصالحة مع الديمقراطية أكثر بكثير مما فعله العلمانيون الراديكاليون المنافحون عقائدياً عن العلمانية، حيث راحت حركات إسلامية - وليس أفراداً وحسب - تتحدث عن الدولة المدنية متخلية عن مفردات الدولة الدينية أو دولة الخلافة.. ولعل التعبير الأشد برهاناً على دهاء مرونة مشروعه الفكري أن الحملة الأصولية على هذا المشروع وصلت حد أن اعتبروا مشروعه غزواً داخلياً لمضاربهم العقائدية والعقلية.. لكنهم لم يتمكنوا منه كما تمكنوا من الراحلين الاثنين الآخرين نصر حامد أبوزيد ومحمد أركون.
باريس