القيمة النوعية للفتوى والمكانة العالية للمفتي جعل منها مطلبا تتنازعه فئات عدة كل طائفة تريد توظيف الفتوى لغرض معين فهناك من يوظفها للإصلاح والتصحيح والنهوض بالوعي ولمقاومة أشكال الانحراف الفكري ولتأسيس التوجه العقدي المفعم بقوالب النقاء، وهناك - وهو المقصود بهذا المقال - من يوظف الفتاوى والمحاضرات الدينية يوظفها كقيمة استثمارية وكالية تجارية من خلالها تتم زيادة مكتسبات الأنا ورفع حظوظها الدنيوية غير آبه بما يترتب على ذلك من استهانة بجلالة التشريع وتهكم بمقتضياته ومن مخالفات ترفضها أدبيات الشريعة الغراء!وهنا تكمن الكارثة حيث يوظف البعد الشرعي على نحو مغاير لمقاصده الربانية.
الفتوى/المحاضرة
هنا يتم التعامل معها بوصفها قيمة استثمارية تضاعف أرصدة الذات التي تكسوها ملامح البراجماتية المقيتة - وقد بتنا أخيرا نسمع ما يسمى: ارتفاع أسعار الدعاة!! - وكم من فتوى جرى التسويق اللاهث لها تحت ضغوط المآرب الذاتية التي ولدت بزخمها المربك لونا من الانفصال بين الفاعل الإفتائي وبين صوت الضمير هذاك القابع في سراديب اللا شعور الذي يفضي تجاهله إلى الخفوت والتلاشي الذي يتنامى على النحو التدريجي!. في بعض السياقات ابتُذِلت المناشط الدينية والفتاوى وأضحى هناك من يسلعنها فيستثمرها وفق شروط السوق ويستغلها للدخول في سباق ماراثوني مسعور، إذ هناك حرب مواقع، هناك تنافس محموم للفوز بحياة الترف والظفر بأسباب المباهاة وتقاضي الأموال الباهظة ولإحراز التفوق على الأقران في سياق الامتداد الاجتماعي.
هذا الصنف البارع في المجال الاستثماري - الذي بطبيعة الحال فقد مصداقيته عند قطاع عريض - له ملامح عديدة سأشير إلى شيء من أبرزها على سبيل الإجمال وعلى النحو التالي:
أولا: طغيان النفَس المصلحي - على نحو فاق نجوم الفن والكرة!- حتى ولو كان على حساب الحقيقة فهو هنا لا يكترث بقدسية الحقيقة بقدر ما يهتم بتوسيع الامتيازات الشخصية وتمتين الوجاهة الاجتماعية ومضاعفة الرصيد الجماهيري وتوسيع دائرة المحتشدين ولذلك فهو انتقائي من الطراز الأول فيستدعي النص في سياق ويغض الطرف عنه في سياق آخر!يسلط الضوء عليه في حالة ويهمشه في حالة أخرى قد تكون في طبيعة سياقها أولى بهذا النص من غيرها، النص هنا يحجب بفعل حظوظ النفس حيث لها التحكم الأوّلي في هذا المقام الذي تتعرى فيه الذات المسكونة بالبعد النفعي!.
عندما تكون العوائد المادية والنفَس الربحي هو الغاية من الانخراط في برنامج فضائي أو إنشاء منشط دعوي بوصف ذلك وسيلة مضمونة النجاح للتكسب وتحقيق الثراء السريع فلاشك أن هذه مثلبة تقدح في مصداقية من نذر نفسه للدعوة والإرشاد؛ مثل هذا لا يستحق لقب:داعية، بل هو جدير بلقب: مهرج لأنه يلطخ صورة الدعوة ويشوه نقاء الداعية الذي أصبح محلا للتندر والسخرية كما نلمس ذلك في تلك التعليقات التي تلوكها الجماهير بطريقة تهكمية عن تلك الفئة.
ثانيا: هذا الصنف تسيطر عليه مشاعر السلب على طريقة كاد المريب أن يقول خذوني! يتضح هذا في طريقة التعاطي مع الأسئلة فهناك تَعامل حذر، هناك توجس حتى من أكثر المقربين، بل حتى من أكثر الأسئلة سذاجة!، حيث لا يتم التعاطي معها بعفوية وتلقائية بقدر ما يُفترض سوء النية مسبقا وأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك من يستفتي بقصد الإساءة للمفتي والإيقاع به، للانقلاب عليه ومن ثم فضح ما يستكن في الأغوار اللجي!.باستمرار هناك استنفار سيكولوجي، هناك دائما ترقب ورصد لحركة الأسئلة المشبوهة ولذا فمن أجل تفويت الفرصة على المتربصين فقد تم إعداد العدة قبلاً ووضع إجراءات احترازية وصياغة سيناريوهات للإجابة وذلك لتفادي الفخ وتحاشي الكمين وإفشال المؤامرة وقلب الطاولة على المدركين لخيوط اللعبة التي يتم التكتم عليها من خلال الإفراط في التصنع، والتلبس بالضد إمعانا في التظليل!.
ثالثا: هذا الصنف لا يؤمن بالحوار حتى ولو تفانى في التنظير لحيثياته - فالقضية هنا شعاراتية!- إلا إذا كان هذا الحوار يتم بعيدا عن الأنظار وبشكل انفرادي؛ أما الحوار أمام الملأ والمواجهة التلفزيونية أو النّتية المباشرة وجهاً لوجه فهذا هو ما يقلق، يرهب، وبالتالي فالتجاهل - أو بمعنى أدق - الهروب هو الإجراء الكفيل بحفظ ماء الوجه وتجنيب الذات عوامل الإحراج أمام الجماهير. هذا الوعي يستبطن فكرة مفادها:أن المواجهة الحوارية مع المخالف أيا كان شكلها فإنها محرجة إذا كانت على مرأى ومسمع من الغير؛ أما أن تُنظر لوحدك محفوفا بمستهلكي خطابك/وهمك، فإن بإمكانك أن تصول وتجول بدون أدنى مضايقة ولا قيود فيطلق الكلمة في الاتجاه الذي يريد دون اعتراض من أحد فهو سيد المشهد هنا، يحرث الفضاء طولا وعرضا، يخترق الأفق الذي يروم، ولسان الحال يردد وبانتشاء بالغ: خلا لك الجو فبيضي واصفري.
رابعا: هذا النوع غالباً مُتيم بملاحقة الإعلام ومطاردة كاميرات التصوير بشكل مسعور فهو لا يطيق العيش في الظل ولا يهنأ له بال إلا عندما يكون محط الأنظار فتُرصد حركاته وسكناته ويصبح ملء عين المجتمع وبصره وهو في ظل هذا الهوس بالحضور الإعلامي لديه كامل الاستعداد لأن يثير زوبعة هنا وأخرى هناك، نعم يعي أن هناك أصوات معارضة، ولكن ووفق مبدأ الربح والخسارة فما يُفقد هنا يعوض هناك وفي الممالئ عن المناوئ غنوة! فإذا كان المناوئ يعيق الذات فإن الممالئ يلهمها قوة الدفع ويمنحها المدد الشعوري اللازم.
المتاجر بالدين عاشق مغرم للفلاشات لا يكف عن الركض خلفها ولذلك فهو يستغل المحاضرة أو التصريح أو الفتوى كأداة استقطاب وكآلة جذب تُعَرضه لوهج الأضواء فتجتاحه حالة من الانتشاء حتى الثمالة حينما يشتعل بريق الكاميرات فتترصد أخباره الجهات الإعلامية والمواقع النّتية وتتهافت القنوات الفضائية على تصريحاته وتضحي أخباره مادة يومية للإعلام فيصبح حدثا وحديثا باستمرار!. هنا تبدو الأضواء فاتنة، ساحرة، إنها إغوائية، إغرائية، ماكرة تمارس سطوتها بجلاء فهي تودي بصاحبها فينسى نفسه وينشغل عن مراقبتها ولا يجد فرصة للمراجعة الذاتية والتأمل والانفتاح بهدوء على المخالف وبالتالي وفي وسط هذا الخضم يفقد القدرة على السيطرة على الذات وكبح جماحها وضبط توازنها العام!.
1568
بريدة