قراءة نقدية
سعدت بحضوري فعاليات مؤتمر مؤسسة الفكر العربي السابع الذي عقد بمدينة القاهرة في الفترة من 13 - 17 نوفمبر 2008م الموافق لـ 15 - 19 من ذي العقدة 1429هـ.
والحقيقة لقد توفق القائمون على المؤتمر لتنظميه وإخراجه بصورة جيدة وحضارية مما أكسب هذا المؤتمر تميزا وتفردا وخصوصا الجلسة الختامية للمؤتمر التي شرح فيها معدون تقرير مؤسسة الفكر العربي الثقافي الأول. وكان المشاركون على مستوى كبير من الرقي أثناء الطرح فهم أصحاب مكانة وعلم ومعرفة وثقافة. ولقد اطلعت على هذا التقرير الجيد وجلست لقراءته عدة أيام بهدف الفائدة والفهم. وفي هذه الدراسة أسعى لإجراء قراءة نقدية لهذا التقرير بناء على طلب سعادة أمين عام المؤسسة الدكتور سليمان عبد المنعم. وهذه القراءة وهذا النقد لا تسعى بأي شكل من الأشكال التقليل من قيمة.. (الجهود الجبارة).. التي بذلت لإخراج هذا التقرير الرائع الذي أزعم أنه سيكون المرجع الوحيد لفترة طويلة. إن هذا التقرير قد يكون مفيداً، وقد يكون مزعجاً ومقززا لأنه استطاع أن يصف الواقع الثقافي العربي وبكل صراحة وشفافية، وعلى كثير من الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والتربوية، والاجتماعية والثقافية وغيرها. يجد القارئ فيه تردياً مكشوفاً في الأوضاع، وانتكاساً مخيفاً. ولكن لن يجد المتلقى في هذا التقرير أي تفسير للأسباب والعوامل التي أدت بالثقافة العربية إلى هذا الواقع المؤلم، والوضع المتردي والمخجل. ومن النقاط التي أود التنويه إليها:
1- في البداية أود أن أسجل موقفا عميقا جداً من التقدير والإعجاب والشكر لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس مجلس إدارة المؤسسة، هذا الأمير المثقف والمتنور، الذي له الفضل الأول في صدور هذا التقرير الثقافي المهم والرائد في فنه ومستواه، ولا أستغرب أن يصدر هذا التقرير من هذا الأمير الحكيم الذي استطاع وبجدارة أن يؤكد أنه ما قعد على مقعد المسؤولية إلا وأبدع وابتكر. يريد هذا الأمير أن يفعل فعل الإبداع والتطوير في كل عمل يتقلد مسؤولياته. فقد سلك مساراً ثقافياً فريداً ومميزاً. وحقق في هذا المجال ما لم يستطع غيره من الكبار تحقيقه. كما أنه وبما يملك من مهارات فردية، وأصول ثقافية وسياسية استطاع أن يقفز بمؤسسة الفكر العربي فوق كل المناطق.. (الملغومة).. سياسياً حتى استقر بها في هذا الموقع الأصل. وعمل ما يريد ويخدم الثقافة العربية دون أن يجرح أو يصاب.
2- كم تألمت حين قرأت في مقدمة التقرير وبالذات الصفحة (5) التي حملت قائمة بالمعدون. ولا أعني في إشارتي اللجنة الاستشارية. حقيقة كنت أتمنى أن يكون اسم لمثقف أو مفكر سعودي ضمن تلك القوائم. وهذا التغيب سبب لي ألما شديد القسوة على نفسي. فإلى متى يقصى المثقف والمفكر السعودي من مثل هذا الأعمال الإقليمية ؟. ومن السبب في ذلك، هل هو المثقف؟، أم المؤسسة ؟، أم الحكومة ؟!. ليس لدي إجابة على ذلك!.
3- ضمن فعاليات الجلسة الختامية قمت بإجراء.. (مداخلة).. وجهتها للأمين العام قلت فيها فيما معناه: إن التقرير غيب بقصد أو بغير قصد دور.. (الخطاب السياسي).. في فعل التنمية الثقافية. وقلت إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال عدم ربط القوى بين الخطاب السياسي الحكومي وعملية التنمية الثقافية. ومن الثابت والمؤكد أن الخطاب السياسي هو أهم المفاصل التي تتحكم وتؤثر في التنمية الثقافية وذلك الخطاب هو الذي يشكل شكل الثقافة العربية.
وللأسف أن التقرير أبعد تناول هذا المفصل السياسي المهم. ورغم أن بعض المشاركين في التقرير عقبوا عليّ وشرحوا موقفهم بتأييدي ولكن على.. (استحياء).. شديد ومن وراء جدر، وقال لي الدكتور علي نبيل إن السياسة موجودة بين الأرقام والإحصائيات وبعض الصفحات. وكانت تلك الإجابة صحيحة، ولكن تفسير تلك الأرقام والإحصائيات غير متوفر بالتقرير. وأؤكد للمتلقي أن الخطاب السياسي في الدول العربية يرتبط به الدين والأيديولوجيا الثقافية. فالدين هو القاعدة الأعمق للتفكير الذي يخلق الثقافة العربية والإسلامية وبالتالي يتحدد السلوك. والأيديولوجيا السياسية هي التي تكرس مفاهيم كثيرة في الثقافة وتشكل العقد الاجتماعي. فالخطاب السياسي العربي يفترض أن يعبر عن مصالح مجموعة أفراد المجتمع، ولكن خطابنا السياسي الحالي لا يدل على استقلال المجال السياسي عن المجال الديني والثقافي، لأن ثقافتنا العربية لا تعترف أصلا بالتعددية. إن الخطاب السياسي العربي لا يعكس تعددا في الرؤى والمصالح والأفكار. وخصوصا في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح السياسي والفكري والثقافي والاختلافي. فالتقرير لم يستطع تقديم العلاقة بين الخطاب السياسي والخطاب الثقافي والديني انطلاقا من تاريخ الأفكار أو تاريخ الثقافة.
ولذلك غاب عن هذا التقرير المهم.. (البناء الديني والبناء السياسي).. في تكوين وتشكيل الثقافة العربية وخصوصا أن كل واحد منهما يتحدد بالآخر رغم فرض قوة كل بناء على الثقافة العربية.
4- حقيقة لقد فجعت من خطورة الأرقام الإحصائية التي نشرت بالتقرير وخصوصا ما ذكره الدكتور محمود خليل عن الوضع الإعلامي فذكر قائلا إن بالوطن العربي (58) قناة عربية دينية، وفي المقابل يوجد (57) غنائية عربية، وهذه الأرقام كنت أتمنى من المعدين للتقرير أن يعملوا على تحليل هذه المقارنة ،ومدى خطورتها وتأثيرها على تنمية الثقافة العربية. وأعرف جيداً أن من أهداف التقرير هو إظهار الحقائق ومعرفة الواقع. ولكن كان يفترض أن نقرأ التحليل والاستنتاج والتأثير. حتى نقبل بقوة الأرقام المطروحة. وهنا تتأكد المصداقية لو تم ذلك الأمر.
5- لم يتناول التقرير فكرة العقد الاجتماعي وفكرة العقد الثقافي وعلاقتهما ببعضهما البعض. وما قيمة المفاهيم والمبادئ التي تخلقها، وقد تتلاقى، وقد لا تتلاقى. وأعني هل تملك الثقافة العربية وحدة الجسم الثقافي العربي في كل الوطن العربي؟. وهل لتلك الوحدة الثقافية والاجتماعية علاقة بسيطرة المصالح السياسية الخاصة؟. وهل لها تأثير مباشر على السيادة لكل دولة؟.
6- كما أن التقرير لم يظهر قيمة الانتماء للثقافة العربية وقيمة الانتماء الفكري العربي. وقيمة صاحب السلطة المطلقة المستندة إلى مشروع الصالح العام. والمستمدة من قدرتها الثقافية. فلذلك لم أفهم، ولم أفرق كغيري بين إرادة الثقافة وإرادة الفرد العربي. ولم أفهم ما بينهما من إرادة التنسيق والتناسق والتقارب. وهل هما متفهمان؟. أم.. لا!.
7- كما أن التقرير لم يتناول بوضوح وشفافية قدرة وأهمية وفاعلية.. (الدين).. على الثقافة العربية. وقدرة العقيدة الإسلامية على امتلاك معنى ثقافي وسياسي مقبول. فلذلك لم يجسد التقرير مستوى الخضوع في هذا الجانب المهم والمؤثر على الثقافة العربية. ولهذا غاب مقام التعليل وبالتالي غابت الإجابة عن الغايات النهائية لكل مؤتمر ثقافي وبالذات على مستوى الإنسان العربي.
8- في إطار هذه التحولات الثقافية في المجتمع العربي حصلت تحولات على صعيد المعتقد الديني والثقافي والسياسي والاقتصادي، لم يتناول التقرير ذكر تلك التحولات أو بعضها. فلا بد أن نعترف بشجاعة كاملة أن تلك التحولات في المعتقدات أدت بل قادت إلى قناعات مزعجة في عقول جيل الشباب، بل إن بعضها تحولت فيها الانتماءات والارتباطات إلى مكونات جديدة وهذا استدل به في جانب أن الكثير من الشباب العربي قد انصرف إلى الإرهاب وتفجير نفسه. أريد أن أقول إن التقرير لم يتناول تأثير الثقافة العربية قد ذهب بعيداً عن العقيدة الإسلامية واتجه إلى انتماءات طائفية متطرفة. وهي التي تتحكم اليوم في بعض فعاليات الشارع العربي رضينا بذلك أو لم نرضَ.
9- لم يذكر التقرير مقتضيات العلاقة مع الآخر وضرورات الأنضواء العربي على ذاته. وهذا ما خلق فضاءات أهمها الفضاء الاجتماعي. فلم نعرف مدى الانصهار الاجتماعي وهويته الذي يفترض أن تخلقه الثقافة العربية. فنحن كعرب لم نعترف أن الثقافة أهم مكون فهم للشكل الاجتماعي.
10- أقصى أو أبعد التقرير أن الثقافة العربية منقادة إلى العقيدة الدينية. وأن الثقافة العربية هي أداة خدمة للدين، وليس باستطاعتها تحديد غايات خاصة بها، إلا في ظل المعتقد الديني.
11- لم يتناول التقرير أن الثقافة العربية حافظت على حيادية صارمة تجاه الكثير من القضايا العالمية البعيدة عن المنطقة العربية، فلذلك لم يعرف المواطن العربي مساحة الاختلافات والخلافات في ما بينها.
12- لم يذكر التقرير أن المرء العربي لم تساعده الثقافة العربية على أن يشكل لنفسه غاية بحد ذاته فهو تابع للسلطة العربية وخطابها. ولا يستطيع الخروج عنها.
13- أبعد من التقرير ذكر التراث والعادات والتقاليد والأعراف العربية وتأثيرها على الثقافة العربية ومدى التزام النص بها.
14- كما أن التقرير لم يذكر في جوانب كثيرة أن الثقافة العربية تدار بقواعد أخلاقية متجذرة في المعتقدات الدينية. وهذا ما جعل المسائل الأخلاقية تخلقها الثقافة في كثير من نصوصها والخروج عنها صعب وقد يترتب عليها عقاب. مثلما دفع بعدد كبير من المتدينين العرب الشباب يطمحون أن يكونوا مثل الآباء فقط، دون أن يحملوا في دواخلهم الطموحات والآمال.
15- باعتبار أن الإعلام العربي تحكمه قواعد أيديولوجية خاصة وشديدة الارتباط بكل دولة عربية، لم يذكر التقرير تفسير الأرقام الإحصائية السياسية التي وردت بالتقرير. وهل اختارت الجماعات الإسلامية بمختلف تصنيفاتها المذهبية خيارها بنفسها أو بتدخلات من أجهزة إستخباراتية أو غيرها.؟. وهل اختار العلمانيون خيارهم أو بدعم وتدخل من الدولة ؟. لم يوضح التقرير هذا الخلط العجيب والأرقام المفجعة ومن كان يحمي هذا النوع الثقافي؟!.
16- لم يذكر التقرير بصراحة وشفافية أن هناك تفوقا واضحا للسياسة على الثقافة في مراحل ماضية وخصوصا ظهور بعض النظريات الوضعية مثل: الماركسية والقومية والشيوعية والإمبريالية الأمريكية والفاشية وغيرها. لأن المدى السياسي -حينذاك- كان مستقلا استقلالا تاماً عن المدى الديني. وكان على المثقف العربي أن يطيع الحكومة وأن يحترم كل قراراتها الثقافية. وأن يمدح أيديولوجيتها الثقافية السلطوية. وبالتالي لم يشر إلى أن الثقافة العربية قد تعرضت تدريجياً لتعديلات عديدة. لعل أهمها تحول.. (الولاء السياسي).. و.. (الولاء الثقافي).. لكثير من النخبة المثقفة والفكرة إلى المعسكر الغربي، وبعضهم إلى المعسكر الشرقي، أي أن.. (الولاء العربي).. انقسم إلى أجزاء صغيرة فالبعض من النخبة العربية باعت نفسها. فكان ذلك.. (الارتماء الثقافي).. يشكل خطرا على الأمة.
17- لم يذكر التقرير مستوى وتأثير التبعية الثقافية العنصرية أو العصبية وقواعدها والتي لم تتفكك حتى الآن. وتلك التبعية لها تأثيرها الخطير الذي ربما يفوق التأثير الإعلامي على الثقافة العربية. فكنت أتمنى لو تناول التقرير مصدر تلك المعضلات التي أغرقتنا في تلك التبعية.
18- لم أقرأ في التقرير الأول للثقافة العربية الإطار التفسيري للثقافة الذي تقترحه مؤسسة الفكر العربي. لمعالجة.. (الهم).. و.. (الوجع).. الثقافي.
19- لم أفهم من التقرير.. (الغرابة).. المحيطة بالثقافة العربية، التي ربما ساهمت في عزلة الثقافة العربية فترة طويلة عن العالم. وكانت الثقافة -حينذاك- تمثل نفسها بنفسها.
20- لقد استطعت تكوين استنتاج من خلال قراءتي للتقرير فتبين لي أن الثقافة العربية لم تجسد ما يفوق قدراتنا وهي لم تكن ممثلة لطموحاتنا العربية. فالتقرير لم يضع أهدافا لذلك أو أنها رسمت توجهات تغير ذلك النمط العربي.
21- ومن خلال القراءة تبين أيضا أن الثقافة العربية لم تخلق أي تفوق معياري ينشده الإنسان العربي وفي ظني -هكذا أعتقد- أن ذلك يعود لسيطرة الآلية السياسية على الثقافة العربية.
22- لم أجد في التقرير أي إشارة بأن للثقافة العربية فاعلية شديدة على أي من الثقافات العالمية وهذا أمر مؤسف.
23- كنت أتمنى على أن يوضح التقرير بالأرقام الإحصائية مدى تعايش الثقافة العربية مع غيرها من الثقافات الأخرى، أي علاقاتنا بالآخر. والتأثير بينهما.
24- كما أن التقرير لم يبين أن الدولة العربية.. (حيادية).. تجاه الثقافة ومضامينها وغاياتها وأهدافها. وكان هذا جدير بالطرح والمناقشة.
25- لم يشر التقرير إلى أن الثقافة تحدد سلفاً بالإعلام، على أساس الاعتراف المسبق بأن المعنى والنص الثقافي لا يسبق إرادة الإعلام الرسمي. والذي تناوله التقرير على استحياء شديد. خصوصا أن لدى الجميع حقائق ومعلومات تؤكد أن الثقافة والإعلام تخضعان لغايات سياسية ودينية شديدة الحذر في المفهوم العربي. حيث إن الثقافة العربية لم تكن تجلس في خانة الحيادية إنما تسير بأهداف نحو الدولة العربية فقط.
26- لم يتناول التقرير دور وتأثير وأهمية.. (الحداثة).. في الفكر الثقافي العربي، وما خلقته من معارك دينية وثقافية بين كثير من التيارات الثقافية. وأن تلك المعارك كانت لها نشاطات في كثير من المناحي الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما وأن.. (الحداثة).. أوجدت..(انقسامات).. بين التقليد وأعوانه وضد الحداثة وأعوانها. وأستغرب أن التقرير لم يستطع تفريغ ذلك التأثير والدور على أوراقه.
27- لم يتناول التقرير أن الثقافة العربية عانت وتعاني حالياً من الخروج من جسدها، حيث إن كثيرا من المثقفين اتجهوا لاستخدام كثير من الكلمات والمصطلحات الغربية والمغاربية أثناء الكتابة والرصد والتحليل والفحص والاستنتاج. إن الخروج من حيز وخزانات الثقافة العربية يتواصل حالياً من حيث رغبة بعض المثقفين العرب التقليل من قيمة.. (المفردة).. العربية، و.. (المصطلح).. العربي وهذا أمر خطير لا تقل خطورته عن خطر التأثير الإعلامي على مستوى اللغة واللهجة معاً. وهذا تحول يعد خطيرا في تاريخ ثقافتنا العربية.
28- في ظل الظروف المختلفة وما حدث من تراجعات شديدة وملحوظة في دور وقيمة وتأثير الثقافة العربية، وما رافق ذلك من اضمحلال المؤسسات الثقافية العربية حيث إن التقرير لم يتناول دور المؤسسات الثقافية العربية وتراجعه ورحيل كثير منها، والتالي غياب.. (تقارير عربية).. مثل هذا التقرير الثقافي الأول الرائع والمفيد والمرجع المهم.
29- كنت أتمنى أن يعترف التقرير صراحة وبشجاعة أن الثقافة العربية تعاني من النضوب الحاد للأصول المعلوماتي والإحصائي والعلمي والموضوعي والمحكم والمعترف به. لأن هذا الخلل والنضوب يسهم بصورة مباشرة في التقليل من قيمة وأهمية الثقافة العربية.
30- تجاهل التقرير كثيراً دلالة النهايات ووزنها في نتائج تحليل الأرقام الإحصائية التي ظهرت في كثير من ملفات التقرير.
31- نحن كمثقفين عرب نميل فقط إلى الادعاء بتقديس الثقافة العربية باعتبارها لغة القرآن المجيد، ولكن لم نستطع فعل التقديس الواقعي بإيجاد المنتج الثقافي المختلف والمحترم الذي يؤكد ذلك التقديس. وإن ذلك الغياب أدى ألى موت القضية الثقافية العربية، وفي المقابل هناك حالات تكذيب من الآخر الذي يسعى للنيل من الثقافة العربية.
32- لم يذكر التقرير ومن خلال عرضه المتعدد المجالات أن الثقافة العربية هي صانعة للتجديد والتطوير، وأنه بفضل المادة الثقافية العربية. فإن هذه الثقافة لها صور متعاقبة في التجديد والمؤثر في الثقافة العالمية ولا أعرف لماذا نسي المعدون هذه المحطة المهمة في تاريخنا الثقافي العربي.
33- من الثابت علمياً وعملياً بأن أية ثقافة هي التي تشع نفسها بنفسها، وإنها قادرة على مواجهة متناقضاتها. وإن من صناعة الثقافة هي أن تصنع.. (النقد).. فالتقرير لم يتناول حركة النقد العربي للثقافة العربية. وإن النقد الذي وجه لها من أبنائها وغيرهم لم يدمر هذا الصرح الثقافي المتين والحيوى. وإن هناك حركات ثقافية اتجهت صراحة لنقد الدين والواقع الثقافي. فالتقرير لم يعمل على ذكر تلك الصراعات النقدية -الحادة- فلا يجوز للتقرير حجب خصوصية النقد للثقافة لنمط من التفكير.
34- لم يتناول التقرير العلاقة المختلفة أو التحالفات والتخالفات للطبيعة الثقافية بين الثقافة العربية وغيرها من الثقافات الأخرى.
35- كنت أتمنى أن يفرد التقرير جزءا مهماً من إخراجه وملفاته المتعددة بذكر بعض حالات.. (الوعي الثقافي العربي).. وأسبابه ويخص بالذكر النضج أو العمق في شعور المثقف العربي بثقافته ومسؤولياته وواجباته. وهذا الذكر الذي أريده يقودنا بالتأكيد إلى ذكر نماذج راقية للمنتج العربي. وعدم الاكتفاء بذكر أرقام وإعداد الكتب الصادرة.
36- لم يذكر التقرير أن المثقف العربي عامة يعاني من.. (الإحباط).. لأسباب عدة ومبررات عقلانية وموضوعية. يقع ذلك..(الإحباط).. والمجتمع العربي مفعم بالتجديد والتطوير والنمو، وإن كل ذلك له آثار بالغة في فهم غاياته وأهدافه ولكن كل ذلك أهمل دور وقيمة المثقف العربي. فكنت آمل أن يذكر أمثلة لحالات انتحار بعض المثقفين العرب مثل الأستاذ الدكتور العالم الجغرافي المصري المشهور جمال حمدان -رحمه الله- وكذلك المثقف السعودي عبد الله الجابري -رحمه الله-. إنهم يرحلون دون أن يجدوا الرعاية والاهتمام والعناية من حكوماتهم. وأن يذكر لحالات سجن بعض المثقفين العرب لو وجدوا قوائم كبيرة من السجناء المثقفين العرب، والذين سجنوا بسبب الرأي. ولو فعلوا ذلك لإعطاء التقرير المزيد من المصداقية والموضوعية. لمعرفة أن إدراك الصيغة السياسية لها دور كبير في كل ذلك فإن فعلنا فإنه يمكننا من أن نفهم الآراء النقيضة والدور الذي تعطيه للثقافة العربية. وهذا يساعدنا بوضوح في فهم الرهان المرتبط بذلك التشخيص فنجمع الدلائل التي من شأنها أدخلت المثقف العربي في حالة الإحباط.
37- لم يذكر التقرير الفاعلية الاجتماعية أو بعض حالاتها التي عادة ما تخلقها في ذات المثقف في أي مجتمع بعيداً عن الدور الحكومي أو الرسمي. فكان لا بد من سماع الصوت الداخلي للثقافة العربية وما يترتب على ذلك من مقتضيات. ومعرفة الصوت الداخلي يوفر لنا الكثير من المعلومات والحقائق الثقافية، وربما يكشف لنا عن حقيقة أشد واقعية من الواقع حين يفضح ذلك الصوت بأن الإنسان العربي يخاف ويخشى من تغير وتطوير ثقافته.
38- نلاحظ بوضوح أن الثقافة العربية قد عانت كثيراً من اضطرابات سياسية تصب وصبت في عدم فهم مقاصدنا السياسية كمثقفين ومفكرين. فالتقرير لم يجعل تلك الاضطرابات واضحة في صفحاته لأسباب أتفهم بعضها وأجهل أكثرها. وهذا الغياب ربما -مقصود- لازم إضعاف التقرير في بعض جوانبه. فالمتلقي العربي اليوم لم يعد تخدعه المظاهر العامة.
39- لم يتحدث التقرير عن.. (الورع الثقافي).. الذي نلاحظه قد تفشى كثيراً في الآونة الأخيرة بسبب الإحباط الذي يعانيه المثقف العربي فلدينا الكثير من المثقفين الذين غابوا بإرادتهم عن ساحة الثقافة العربية لأسباب عدة كنت أتمنى من هذا التقرير الأول تناولها. ويذكر بعض الأسماء مثل: الأستاذ حمزة شحاتة والأستاذ عبد الله عبد الجبار والأستاذ إبراهيم أمين فودة وغيرهم في بلادنا.
40- هناك تحولات في التطلعات الثقافية الشبابية كبيرة وواسعة، لم يذكر التقرير بعض تطلعات الشباب العربي الذي أعدت مؤسسة الفكر العربي لهم العديد من الورش والندوات والمقاهي.
41- تجنب التقرير الحديث عن خطورة وأهمية سيطرة.. (الثقافة المركزية).. في كل دولة، وأعني سيطرة ثقافة العاصمة على باقي مدن الدولة. حيث يمكن القول إن الثقافة العربية.. (تعميم).. أي تصبح عامة عبر ثقافة عاصمة الدولة فتفرض كقوة ثقافية. بينما.. (تخصص).. ثقافة باقي المدن. وهذا أمر يوحي بالتداخل في ثقافة إقليم على آخر. لأن ثقافة العاصمة قد لا يؤمن بها كل مواطني الدولة. والثقافة موقف حر يؤمن بها الفرد للتعبير عن نفسه. ففرض الثقافة المركزية قد يؤدي إلى.. (الانشقاقات الثقافية).. وربما السياسية فالحكم بالثقافة المركزية له سلبياته المتعددة، خصوصا أنها تصبح محكومة بفرض بصماتها على باقي ثقافات الأقاليم الأخرى من الوطن. نعم تكون.. (الثقافة المركزية).. هي الثقافة الحاكمة على الواقع الثقافي للدولة وتصير محكومة بها. وهذا النوع من البيئة الثقافية المتحكمة قد يخلق.. (الوهم الثقافي).. أثناء التشكيل.
42- لم يتناول أو يذكر التقرير تأثير وأهمية.. (القبيلة).. على الثقافة العربية، وأزعم أن من يتجاهل عنصر.. (القبيلة).. في الفكر العربي فهو قاصر عن فهم الثقافة العربية.
43- التقرير لم يتناول أي ذكر للاستبداد الفكري والسياسي تجاه الثقافة العربية والممارس علينا من أعدائنا مثل تدخل دولة إسرائيل في منع ونشر أي نوع من الكتب والكتابات ضد اليهود والصهاينة. فذلك عطل الاستبداد الفكري والسياسي الكثير من العقول العربية عن وظيفتها الثقافية. وذلك يقود إلى شل الحركة الثقافية ونشاطها ويبقى ويقود الثقافة إلى حالة التقليد فقط.
44- لم يذكر التقرير تأثير الكثير من فتاوى الأهواء، وفتاوى السلطة الدينية والسياسية، وفتاوى التسويغ للمواقف السياسية، التي تفرض على المثقف والمفكر العربي.
45- في مرحلة ما وقعت معارك مفتعلة بين السلطة بأشكالها المختلفة في قضية.. (الصلح مع إسرائيل).. سببت تلك المعارك انشطارا ثقافيا خطيرا في تاريخ أمتنا العربية. تلك المعارك استنزفت الكثير من الطاقات الفكرية. وامتدت تلك المعارك إلى كثير من الدول العربية وتسببت في اعتقال الكثير من المثقفين والمفكرين العرب وأدخلوا السجون. وأثارت ضجات إعلامية وصحافية وثقافية واجتماعية ودينية. لماذا لم يذكر التقرير تلك المرحلة ومعاركها المهمة في تاريخ الثقافة العربية.
46- الحقيقة التي أعتقد أنه لا يتنكر لها أحد، هي أهمية وجود ثوابت ومبادئ ومرتكزات ثقافية لأي أمة، تمثل إفرازات العصر ومتطلبات المرحلة، تكون بمثابة جذور الشاكلة الثقافية، فالتقرير أهمل طرح تلك الثوابت والمبادئ والمرتكزات التي هي في الأصل.. (عقل الأمة الثقافي)..،. وهذا ما يشكل نسيجها الخارجي.
47- كنت أتمنى أن أجد من بين صفحات التقرير وصف لشكل.. (خميرة).. النهوض، والإمكان الحضاري، لتشكيل التكوين الثقافي الجديد للثقافة العربية وفق معطيات العولمة العالمية.
48- ثم أختم ملاحظاتي بسؤال للقائمين على هذه المؤسسة وهو لماذا لم تُعقد إحدى مؤتمراتها في بلادنا/ ورأس مالها سعودي بنسبة كبيرة.
ولا أعرف وبعد هذه القراءة الجادة للتقرير ووضع الأمة العربية الثقافي، هل يعود كل هذا الوضع السيء والمتردي إلى ضعف وخلل أساسي في تكوين الثقافة العربية ومكوناتها، أم أن هذا الوضع سوف يزول مع مرور الوقت، أو حتى تزول الأسباب التي صنعته. ولا بد لنا وعبر كل الآليات الإعلامية المختلفة السلطوية منها والتجارية أن نؤكد ونعرف الأمة إن قوة الأمة، ونشاطها وحيويتها، وقدرتها، وفاعليتها، إنما تقاس بما لها من تأثير ثقافي على الحدث المحلي والإقليمي والعالمي.
بقي أن أقول في ختام دراستي هذه أن التقرير أكد لي وللمتلقي وللعالم إننا كأمة عربية مختلفون عما كنا نظنه عن أنفسنا. وعن ثقافتنا وقدرتنا. وأكد التقرير أن.. (وعينا الثقافي).. لم يتوقف نظريا ولا عمليا حتى يرسم وضعنا الثقافي. فعل هذا التقرير الرائع والحيوي ذلك.. (بالإدراك العفوي)..
و.. (الإدراك الواقعي)..، وبالتزام جيد بالتركيبة الدينية والسياسية والثقافية.
كما يتبين للمتلقي أنني قد توسعت كثيراً في ذكر هذه الحقائق عن (الثقافة العربية).. وأهم مفاصلها لأنها تبين التناقض في الوضع الثقافي الذي نجد أنفسنا قد خلقنا وعشنا فيه.
أتمنى من القائمين والمسؤولين بمؤسسة الفكر العربي قراءة هذه الدراسة الجادة التي لم تفكر في أن تقلل من الجهود الجبارة التي أخرجت هذا التقرير الرائع والحيوي والمهم الذي سوف يكون أحد أهم المراجع عن الثقافة العربية وغيرها. وأنه سوف يخدم الباحثين العرب وغيرهم في الكثير من المجالات المختلفة.
والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض وساعة العرض، وأثناء العرض.
مكه - أديب وكاتب سعودي
Faranbakka@yahoo.co.uk