الرجع في الشيء هو الموقع والصدى الذي يتناغم معه ويحمل خطابه من البعيد إلى البعيد.. رجع شاعرنا جاء واسعاً وشاسعاً بحجم خطابي الشعر.. وكم مشاعره التي طرحها في ديوانه.. سأحاول جاهداً الإلمام بلقطاتها الملونة ما وسعني الأمر، وما سمحته مساحة الاستراحة.

من قصائده الإيمانية اصطفى عنوان «كن مع الله»:

قال: إني دائماً ضد التقدم

قلت: ربي يا أخي بالقصد اعلم

قال: إني مفرط في حب ديني

قلت: إني مؤمن بالله مسلم

قال: جار العصر فالتيار عات

من يعارض سيره يا صاح يندم

قلت: ربي قامع خطو التمادي

من تمادى بالهوى والله يغرم

مقطع حواري بين الشاعر وصاحبه ينتهي في معناه إلى هذا البيت المعبر.

كم قصور بالهوى صارت ترابا

وبناء محكم أمسى محطم

ننتقل معه وبه إلى وطنياته وأحاسيس انتمائه:

منك شع الهدى لقمع الفساد

ساكب النور في قلوب العباد

إنه الحق بالبراهين يهدي

ذا ضلال ودامغ كيد عاد..

يا بلادي يا منبع العز أنت

نبضات جميلة في فؤادي

أنتِ واد يجري به كل داع

رافق للمجيد.. لا كل واد..

حسنا لو أضاف الياء بالنسبة لكلمتي عاد وواد.. ويسترسل في تغنيه بوطنه:

موطني حس خافقي وغنائي

وفدائي واصل فخري وزادي

إن يكن للغرام حد فحبي

مثله خاضع لحكم ازدياد

مشاعر جياشة لوطنه تحمل كل معاني الحب والانتماء.. والخشية عليه من مكائد الأعداء. وطغاتهم..

ومع طعنة صديق أزاح الستار عنه دون أن يسميه: يسوقه لكل صديق جاهل أو جاحد:

صديقك ما إن شطر سيرك أرشدا

وإن خاب سهم من سهامك سددا

صديقك من يأسو جراحك مشفقا

وإن شاف سعدا في ربوعك أسعدا

كثير هم الأصحاب إن شئت.. إنما

صديقك حقا من يغيظ بك العدا

أبيات ثلاثة ملؤها الصدق تؤكد في مضامينها أن الصديق من صَدَق. لا من صدَّق.

هذه المرة مع الشعر الذي يهواه.. إنه يخاطبه بصوت إلهامه وغرامه..

ماذا تريدين إذ تأتين ملهمتي

طيفا من السحر.. كم شتت من عُمُري؟!

ماذا تريدين إذ تأتين؟ إن فمي

محشوشب.. ويراعي ملّ من ذكري

لم يمدح الشعر إلا من يداهنه

أضحى وذو الصدق لم يحصد سوى الكدر

ذكرني شاعرنا بشاعر آخر وهو يتحدث عن الشوق:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

ينعي بشيء من التشاؤم بيان الشعر وقيمته.. وما آل إليه من انحدار في مضامينه ورسالته:

إن الحياة التي كان البيان بها

ذا قيمة سار أهلوها إلى الحفر

الشعر الصادق يبقى حياً لا يقبل الحفر.. إنه لا يموت حتى ولو جافاه الزمن.

في مقطوعته تأملات يقول في بعض مقاطعها:

يا حبة القلب ما للحب من باق

فلا تضيقي بمهذار ونعاق

ما كل دائنة تسعى بممطرة

وليس من قال راقٍ كان بالراقي

فات الزمان الذي كان الجسور به

يُخشى كأن الموتى في عصرنا الراقي

ترى من هذه التي افتداها بروحه.. وعهد إليها شق الصخر؟!

عشقتك فانداحي إلي تجعلي الورى

نجوما يبُتْ ما ضاق من ضوئها يُسرا

أستحسن إبدال كلمة إلى ب لكي.. إنها الأنسب..

فمن وجهك الوضاء كم قاتم غدا

منارا ومن عينيك كم مفلس أثرى

فديتك شقي الصخر حتى تبددي

دياجيره حتى تعيدي لنا الحسرى

أحبك أنت المجد والعز والندى

وأنت الملاذ الفذ ما نشتك الفقرا

أعيدي لنا ما كان.. إنا لما مضى

لنعشق عشق الأرض اذ تفقد القطرا

عشقناك حتى الموت لا تعتبي إذا

نسينا ففي التذكار ما يجمل العذرا

أخماس لأسداس ضربتها.. عقدت الخنصر والبنصر.. وفكرت وقدرت تلك المعشوقة.. الراية الخضراء.. الأرض.. الأمة.. ربما واحدة أو أكثر.

لا تحاول إطلالة منه على شمس الحياة يشهد من خلالها الحظ.. أو الخيط بين اليقين والشك.. بين سبل الصواب والخطأ.

في يميني شمس.. وفي القلب أخرى

وجفوني تؤوي وتعكس بدرا

إن يكن للخنوع دربك سهلا

إن لي في الشموخ مفدى وحسرى

مجهري يفضح الخبيء فعندي

يستوي ما لديك سراً وجهرا

هتفت به فارسة أحلامه.. أثارت لديه مكامن حبه ونجواه:

هتفت لي فهز عمق المشاعر

هتف ملتاعة كرقية ساحر

هتفت لي دجى بصوت دلال

لم يكن لي فيما تضمن خاطر

هتفت لي فحركت ما تسامى

من وقاري وألّفت كل نافر

يأخذه الهتاف إلى الحد الذي يرى فيه قريضه على وشك القصور إن لم أقل الانقراض

ما الغناء الجميل والسعد إلا

من جنى الفن من حسان سواحر

كل ما سطرت يداك وغنيتُ

اشتياقا عن قامة الشعر قاصر..

توافت أمام عدسته الشعرية ابنة حواء. ويوم عيد. يوم عرس.. ويوم فرح.

جدب فلا شيء في الدنيا يسليني

إن غبت عن ناظري يا بعض تكويني

ريحانة أنتِ يا حسناء جاذبة

في القلب مسكنها لا في البساتين

يا بنت حواء ما أحلاكِ مفعمة

عيني فلا ظفرت عين الشياطين

ويصل به التوصيف وتوظيف الكلمات قمته:

إن كان للطين دوحات مفردة

فأنتِ أجمل ما يشدو على الطين.

تأخذه وجدانياته كل مأخذ.. إنه يستعد بها ويعطيها من طاقته ما يشبع فضوله وعطشه حتى لتلك التي قالت فغض الطرف عنها.

هذا فؤادي.. وهذه كفي

فاستملكي إن شئتِ أو كُفّي

يكفي التذبذب يا معذبتي

لو كان يحكي صاح بي يكفي

قالت: أمنِ عشقي؟ أجبتُ ولا

من غيره شاء الهوى قصفي

قالت: فغض الطرف لا عاشوا

من يقذفونك أو نووا قذفي

حوار وجداني مليء بالعاطفة.. تبادلا فيه الشوق.. والشكوى من عيون ملؤها الغيرة وألسنة ملؤها القذف، هكذا رسم لنا مشهد المناجاة باقتدار يحسد عليه.

شاعرنا داهمه المشيب مبكراً فنازله شعراً..

جئت من أين على كف الضعة

بعدما صارت عقودي أربعة

داهم الشيب فؤادي فاحتوى

يقق القصد به كل السعة

سافري عن ناظري من خاطري

صادري ما جره العشق معه

إن تكن روح التصابي طفلة

في وقاري ما يصد الزوبعة

كل وجدانيات شاعرنا منصور دماس ملتهبة.. الحماس فيها يزيدها اشتعالاً.. تارة يرسي به القارب على شط النجاة.. وأخرى يأخذه موج الشوق إلى أعماق بحره المتلاطم دون أن يغرق.. لأنه يملك القدرة على التجديف ومخاتلة الموج الوجداني. أكثر من محطة حملت أكثر من تجربة في دنيا الحب تتقاطع في محتواها الشعري إلى درجة المقاربة.. تشكل في مجموعها تجربة عمر عاش وعايش.. ورصد حصاد عيشه دون تكلف.. ولا مبالغة.

في سفره الطويل قدوم ورحيل ما إن يفرغ من حط رحاله حتى يستنفرها من جديد في رحلة له.. أولها.. سياق الأمر. هذه المرة يناشدها أن لا ترحل

وهبتك روحي فلا تخجلي

إذا لم تصوني ولم تسألي

كأنكِ بالعذر في مأمن

ونفسي بالحب في معزل

لكِ العمر أهديت ما العمر إن

بهتف جمالك لم يشغل

لكِ القلب مأوى فلا تقبلي لي

المكان الذي لكِ لم أقبل

أنا لكِ ما عشت يا فتنتي

فجوري إذا شئتِ أو فاعدلي

أردت رحيلي ألم تعلمي

بنفسي التي بكِ لم تجهل

فديتكِ عودي إلى ما بدأت

فديتك بالله لا ترحلي

وللجرح النازف مكان في ضميره.. وشعوره

حسبي من العذل سد الجرح صبح فمي

وكبل العذر بركانا خطى قلمي

حسبي من العذل إن الكتم أجمل لي

ما قيمة البوح مبذوحا على القمم؟

توسع الظلم حتى ما خلا جبل

من وطئة حيلك بات السفح كالأشم

وصار ليل الخنى يزهو بزمرته

فلم يغب عن تخوم الفحش أو ينم

ويتساءل في حيرة وحسرة من أمره:

كيف البطولات ضلت عن مواقعها؟

واستحسنت صولة الأذناب والرخم؟

عن فلسطين الذبيحة يقول على لسانها:

أليس عار على قومي يرون دمي

وقتل طفل وعرض رهن مغتصب

عاتبت قومي من شر يداهمني

إن لم أعاتبه بني قومي لمن عتبي؟

مذ نصف قرن وخطوات التهويد بلا

صد وخطواتنا تسعى إلى العطب

هل يستوي حجر يرمى وقنبلة؟

كلا فليس تراب الأرض كاللهب!

أخيراً يخاطب شاعرنا عامه الهجري الجديد.. ولسان حاله يقول: عام بأي حال عدت يا عام مع الاعتذار لأبي الطيب المتنبي:

على أي حال جئت يا عامنا لنا

زمان بلا ذكر زكي ولا فخر؟

سرى الشر في كل البقاع فما خلا

سوى النزر ليت المنزر يمحو ذوي الشر

فماذا عسى يا عامنا فيك للذي

دهته منون الدهر تغري قوى الصخر؟

ويخلص من تساؤله.. من ألمه إلى أمله:

نتوق إلى النصر المؤثل والعلا

بلا همم لا لن ننال مدى الصفر

عند هذا الحد من السعي الحثيث مع شاعرنا منصور محمد دماس مذكور في رحلة زادها الشعر الإيماني.. والوجداني.. والاجتماعي.. كانت ممتعة.. ومشبعة بروح الرفقة والرفق.. وإلى لقاء متجدد بإذن الله مع شاعر آخر.. وفي عطاء آخر إن كان في العمر بقية.

***

262 صفحة من القطع المتوسط