اقترب كثيرا من وحول الستين ومن أدغالها الموحشة، بعد أشهر قليلة سيلملم أوراقه الخاصة من درج مكتبه ويغادر الإدارة التي عمل فيها كل هذا العمر، سيخرج من بوابتها كئيبا ومثقلا بالكثير من الأحزان بعد أن يستلم من مديره السبعيني خطابا يتضمن طي قيده بناء على مذكرة واردة من ديوان الخدمة المدنية تؤكد حسب ما يقتضيه النظام عدم كفاءته للعمل بعد بلوغه لهذه السن.
لو أنه لم يصطدم بنظام السن القانوني للتقاعد لأصبح كما كان يحلم مديرا قويا يأمر ويطاع وسيجد عند وصوله لهذا المنصب يدا قوية تخترق النظام كما وجدها مديره الذي بلغ سن السبعين ونيف ولا زال متربعا على كرسي الإدارة.
وعده زملاؤه في العمل بإقامة حفلة وداعية تكريما له بمناسبة تقاعده الوشيك، شعر أن الزمن يمضي بسرعة جنونية عندما أرجعته الذاكرة لتلك الوليمة الدسمة التي أقامها لزملائه - آنذاك - بمناسبة تعيينه مدققا في الشئون المالية ثم نقله بعد ذلك بقرار من مديره إلى قسم الأرشيف نتيجة لتشدده والتزامه الصارم في تطبيق نظام المصروفات بحذافيره.
مضت الأشهر المتبقية بسرعة الثواني، وخرج من بوابة الإدارة وهو يحمل حقيبة صغيرة وضع بداخلها أوراقه الخاصة وورقة تحولت كسهم جارح نفذ لمشاعره بقوة، إنها مذكرة طي قيده.. يا لها من ورقة مؤثرة قلبت موازين كيانه، وفتحت صفحة جديدة موجعة لما بقي من عمر قصير سيتلاشى بعد سنوات قليلة، تذكر قصة(نوح) الذي عاش ألف عام، قرأ هذه القصة مرارا في كتب الأولين وبمختلف الروايات التي روى بعضها أن نوحا عاش ألفا وسبعين عاما، حاصره سؤال صعب:
- لماذا لا تطول أعمار البشر أسوة بعمر نوح...؟!
تواردت في خاطره الكثير من الأسئلة الصعبة كهذا السؤال الذي لن يجد له إجابة مقنعة في ظل الثوابت السائدة التي درج معظم البشر على الإيمان بها منذ آلاف السنين.
أخذ يتصنع الابتسامة على محياه أمام زملائه أثناء حفلة التوديع، ويتظاهر وكأنه في غاية السعادة والابتهاج لكن مشاعر الحزن والاكتئاب ظلت تغلي من داخله.
هاهو يدخل مرغما إلى عالم المتقاعدين.. إنه عالم يشبه القبر المفتوح حيث يصبح المرء وهو بداخله وكأنه أقرب للموت من الحياة عالم يصبح فيه العد تنازليا نحو النهاية الأليمة.
- سيتفرغ ل(أعماله الخاصة)!
عبارة مستهلكة أخذ يلوكها كأي متقاعد للتظاهر أمام الآخرين بقوة إرادته وعدم يأسه من جدوى الحياة، أحس أن الإنسان عند بلوغه سن الستين ينتقل إلى مرحلة مفصلية مؤلمة تبدأ من شعوره المرير بعدم صلاحيته للعمل الذي أفنى فيه معظم سنوات العمر.
لديه أعمال خاصة مشاريع وأحلام وطموحات لا حدود لها يتحتم عليه إنجازها أو بعضها على الأقل في زمن قياسي، قبل أن يتقاعد مرة ثانية بضغط أمراض الشيخوخة ويبقى طريحا على فراشها المضني لا يقوى على الحركة ولا على الخروج من غرفته، حيث لن ينتظر شيئا يلوح بأمل عدا تفاقم الألم و(هيستيريا) الخرف ثم ساعة الاحتضار وبعدها يغمض عينيه إلى الأبد.
يا الله:
- لماذا عمر الإنسان ينكمش بهذه السرعة المخيفة؟
قرر أن يتخلص من ضغط أسئلته المقلقة، خرج من منزله وركب سيارته وظل يطوي الشوارع للخروج بعيدا عن مشارف المدينة، كان لديه خيار واحدا هو من أصعب الخيارات الإنسانية وأكثرها مرارة وألما.