صغارًا كنا نترقبُ الخبر، وفوق أكياس الأرز والسكر وبينها وإلى جوارها كان دكان « العم عثمان الحماد الربيعة « -عليه رحمة الله - في مدخل «الحيالة « مكانًا يرافق فيه الصبيُ والده – حفظه الله – حيث يلتقي العابرون في حكايات عابرة، ولعل أثراها في نفسه ارتقابُ افتتاح «محطة التلفزيون»، وكلما مر الأستاذ عبد الرحمن العبد العزيز السليم - رحمه الله – سأله المجتمعون: متى؟ والإجابة موعدٌ يتلوه موعد ، وعرف صاحبكم سر التأجيل بعد عقود حين حدثه شيخُنا الكبير «معالي الأستاذ جميل الحجيلان « عن ترددِ صاحب القرار في افتتاحِ محطة تلفزيون القصيم، وما أدراك ماالقصيم، خشيةَ ردود فعلٍ مشابهةٍ لما حصل في الرياض – قبل سنوات- عند إدخال التلفزيون في المملكة.
الذي حدث هو الترحيبُ، بل لقد سبق شراءُ أجهزة التلفزيون عملَ المحطة، وعاش بعضُ الناس لهفة الحدث فاستبقوه يُحركون هوائيات منازلهم وميزانيات أجهزتهم علها تلتقطُ بثًا تائها ؛ حتى إذا افتتحت «1968م» تسمر المشاهدون أمام البث من العَلَم إلى العَلَم ، وكان « باباي البحار» برنامجَنا المفضل وبرنامج « مجالس الإيمان « هو البرنامج الأكثرَ جماهيريةً لدى الكبار، ولفت نظرَنا أن مذيعًا وسيمًا حليقا يقدم برنامجًا دينيا كان يومًا موضع خطبة الجمعة في الجامع الكبير تداخلا مع حلقة «الدكتور أحمد كفتارو مفتي سوريا الراحل» الذي طالب أن تتجاور مآذنُ المساجد ومداخنُ المصانع تأكيدًا لدور الصناعة في نهضة الأمة، وهو ما اختلف الناسُ بشأنه طويلا.
ذاك في المرئي، وفي المسموع كان برنامجُ (يا أخي المسلم) ذو الدقائقِ الخمسِ المبتدئُ بإيقاع والمنتهي بتوقيع أحدَ البرامج الأعلىِ استماعًا متبوعًا بنشرة الظهيرة الرئيسة التي ظلت – حتى وقتٍ قريب – النشرةَ الأهم، ولا يقرؤها إلا أبرز المذيعين.
و في» سان دييغو الكاليفورنية الأميركية» كنا نفرغُ من صلاة الجمعة في صالة الكنيسة المستأجرة ثم نتسوق في البقالة العربية المجاورة في شارع «الكهون» حيث « أبو جورج « الفلسطيني وزوجتُه وبعضُ أولاده ؛ فنشتري الجديد من الصحف والمجلات العربية، وعلى رأسها « المسلمون « - المجلة الإسلامية الدولية كما في ترويستها - وقد فاجأنا أن نقرأَه بعدما كنا نسمعُه ونراه، ولعلها كانت عاملا مساندًا لصديقٍ يكبرنا تحول من بوهيمي إلى معتدل ثم ملتزم، ولفت نظرَنا إلى موادها التي كان أبرزها وجود شيخ الإذاعيين على رأس كتبتها.
قدم إلى الرياض مع تأسيس إذاعتها، وكان قبلها مذيعًا وخطيبًا في سوريا، وارتقى به جهدُه ليصبح مديرًا عامًا لإذاعة الرياض سنوات سمانًا في تاريخها، وحين استقال عاتب الدكتور غازي القصيبي « وزيرُ الصناعة حينها « الدكتور محمد عبده يماني» وزيرَ الإعلام إذ ذاك « -رحمهما الله- أن كيف تفرطُ بمثله، لكن «أبا المجد» شق طريقه في مسارٍ إعلامي آخرَ ونجح فيه، ثم اتجه للعملِ التربوي فافتتح مدارسَ أهليةً وكان يباشرُ الإشرافَ عليها بنفسه، وحين ثقلت خطاه عاد للقلم يسجل ذكرياته وينشرها، وأجملها معايشاتُه في إذاعة الرياض مع « الثمانين « من السابقين الأولين الذين خططوا ونفذوا وأعدوا وقدموا وسجلوا وأخرجوا، ثم تقاعدوا وأُقعدوا، وغابوا وغُيبوا، فلم يبقَ منهم إلا أصداء مبعثرة.
مايزال صوتُ الدكتور زهير الأيوبي « وهو في عقده الثامن « كما ألفه متابعوه ضاجًا بالقوة والعذوبة، وتتخيلُ حين تحادثه أنك تستمع إليه في واحدٍ من برامجه، وكذا يبقى المتكونُ الموهوبُ المتميز غيرَ عابئٍ بتصاريف الزمن.
كنا نتمنى ومانزال أن تقوم وزارةُ الثقافة والإعلام بتسميةِ استوديوهاتها وقاعاتها وممراتها ومكتباتها بأسماء روادها وفي طليعتهم الدكتور زهير ومن سبقه وجايله وخلفه، كما نتطلع لرؤية ذكريات الأيوبي « الوفائية « وذاكرته القوية في سيرة تمثل الإنسان والزمان والمكان.
الذاكرة انتماء.
Ibrturkia@gmail.com