لقد ناقشنا من قبل فكرة أن خلافنا مع الراحل د. أركون لم يكن حول أهمية الموضوع الديني ودرجة راهنيته، كما يروي مترجمه (الدكتور هاشم صالح) بل حول الموضوع المنهجي الفيلولوجي المدرسي الذي كنا نعتقد أنه قد تم تجاوزه في الفكر العربي ذاته من خلال تسرب التاريخانية، ولو من باب السياسة والأيديولوجيا، رغم أن هذه التاريخانية السوسيولوجية الخلدونية عُرفت منذ فكر النهضة الحديث، ليس في نموذج طه حسن فحسب، بل لدى مفكِّر عراقي مهم كعلي الوردي من خلال إنتاجية فكرية ذات نكهة سوسيولوجية تاريخية زاوجت بين خلدونية الحس التاريخي، وجاحظية الرهافة الأنثربولوجية الثاقبة على خلفية مناهج الحداثة الأمريكية التي ساهمت في التكوين الأكاديمي للوردي؛ ما يمكن أن نلتمسه ونتلمسه في كتابه الشهير «وعاظ السلاطين».. بل إن هذه التاريخانية راحت تتبوأ في صيغتها الأكثر حداثية، أي في صيغة المنهجية الماركسية التي كان الراحل يناهضها سياسياً. هذه المبحثية التراثية التاريخانية ساهم اليسار العربي والفلسطيني بإشاعتها من خلال نشر كتاب المفكِّر المقدسي بندلي جوزي الصادر منذ سنة 1928 (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) بإشراف خليل السكاكيني، الذي تظهر فيه آثار مدرسة الاستشراق الروسي فالسوفييتي؛ حيث كان يدرس في الجامعات الروسية..
إن هذا الفضاء الثقافي العربي الذي عرف حداثات منهجية في معاورة الموضوع التراثي والديني كان بعيداً عن متناول راحلنا الذي كان يغوص في مناهج البحث الفرنسية، ولا يرى في العالم العربي سوى الفكر المشيخي لـ(إسلام الفقه الأصولي) لشيوخ خطب الجمعة؛ ولهذا فهو لم يحفل بكتاب حسين مروة عن «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» الذي حملته له بما لا يخلو من المناكدة السياسية المضمرة التي تريد أن تتحدى فوقيته وشعوره الطليعي الذي لا يخفي الغرور في ميدان البحث التراثي بوصفه رائداً، بل بوصفه أتى بما لم تأتِ به الأوائل وفق مترجمه الذي توقفنا على رأيه الذي يعتبره «سباقاً لزمنه الذي لم يفهمه» كما أشرنا، بل يمكن الإضافة بأن مشروع حسين مروة كان يتزامن مع مشروع طيب تيزيني في سوريا وحسن حنفي في مصر، وإن كان مشروع الاثنين تتغلغل فيه نفحة أيديولوجية ظاهرة وذات وظيفية سياسية مباشرة: حيث حنفي ومشروعه السياسي عن (اليسار الإسلامي)، وتيزيني ومشروعه (القوموي الإسقاطوي التلفيقوي) وفق اشتقاقاته تحت عنوان (من التراث إلى الثورة)..
هذا البُعد عن المحيط الثقافي العربي وتفاعلاته الفكرية كان أحد العوامل الأساسية الكامنة وراء القراءات التي تشكك في درجة عمق اتصال راحلنا أركون بموضوعه؛ حيث لا يتوقف عدم الاتصال عند حدود معرفة المادة موضوع البحث، بل بمحيط الموضوع وسياقاته؛ حيث إن الغربة عن الموضوع تتجاوز درجة حضوره في وجدان ومشاعر أو (اللامفكر به) لدى الجسد الإسلامي المريض بماضيه لإنقاذه، كما يبرر له حذره بأنه لا يعطي المريض مقادير لا يتحملها فتميته بدلاً من أن تشفيه، بل تكمن الغربة في عدم معرفته بالتاريخ الطبي للمريض، وليست تاريخه المرضي فحسب، أي عدم معرفة العلاجات التي سبق لمعالجين سابقين أن قدموها للمريض.. حيث إنه لا يعرف الإنتاج الفكري والثقافي المعني بالمسألة التراثية عربياً قبل شغله عليه، وهذا ما يفسِّر مسألة أني كنت أول مَنْ نبَّهه لكتاب الراحل حسين مروة كما ألمحنا من قبل، وقد قمت بإحضار الكتاب له، لكن حساسيته (الأيديولوجية السياسية) جعلته يعيده لي بحيادية شديدة؛ لكي لا أقول: إنه أعاده باستخفاف، وذلك بعد أيام عدة..
ولهذا كان الراحل يعتقد أن الفكر الإسلامي لم يعرف مفهوماً للزمن الإسلامي سوى الزمن العمودي، أي (زمن تاريخ الوحي) بوصفه صانعاً للتاريخ المعاش للناس، وليس تاريخاً زمنياً كرونولوجياً بالمعنى السوسيو - أنثربولوجي.. حيث يكون فيه الناس فاعلين ومنتجين للمعنى بالتوازي مع سلطة النص (التنزيل - المتنزل) من أعلى إلى تحت.. مفترضاً أنه هو من يبدؤه.. متجاهلاً كل هذه الإنجازات التي عرضنا لها.. وللحديث بقية.
-
- باريس