شكراً لمهرجان دبي السينمائي الذي جعلني أصطدم بعبد الله حبيب ليهديني كتابه فيما بعد المعنون بـ»تشظيات أشكال ومضامين. الكتاب ليس رواية وليس هو مقالات جمعها في كتاب ولا هواجس محضة وخوف من عذابات الزمان ورواح أصدقاء في الأبدية، ليس هو رواية ولا طواف حول أضرحة مخرجي الأفلام. ليس هو قصة حب في رواية ولا صراع هاملت بين الوجود العدم فنكون أو لا نكون.. ذلك هو السؤال.
تشظيات تجمع وجودك المتناثر في الدنيا فتلمه نيابة عنك وأنت مسترخ في مقامك وكسول. هو يقظة في رؤية الأشياء وهو مجسة خاصة وفريدة في الحياة والصداقات والهروب تحت عنوان السفر الواهم بين المدن للخروج من المكان نحو اللامكان والزمان نحو اللازمان. كتاب تشعر بأن الملل السأم دافع فيه كتابته والرغبة في التغيير المستحيل هدفاً ولكن في النهاية تشعر وكأنك تمشي في الحلم وهذا هو مستقر التغيير.
تقرأ الحكمة في كلمة وفي الانتقال نحو موضوع جديد فيبدو لك أنك أمام قصة قصيرة وثائقية عن شخص صديق أو ربما غير صديق، مواطن أو طفلة قرأت كلمة تاريخ «تأخير - تأخير» في كتاب الكتابة والتجربة الصوفية وكررتها خمس مرات بنفس اللفظ ليكتشف المؤلف صدق الخطأ المقصود أن التأريخ تأخير في مغبات الشكل والمضمون.
تساءلت أكثر من مرة هل اللعب في اللفظ العربي يمكن أن يندرج في إطار الفلسفة والأدب وهل فيه حكمة أبعد من السخرية. وهل هذا النوع من اللعب على الألفاظ «أحيانا» ورد لدى كتاب الغرب أم هو مثول في المحلية وهو ما أسقط السينما العربية فيها وأبعدها عن اللغة القياسية في التعبير وفي مفردات لغتها التعبيرية.
تشظيات عبد الله حبيب زاخرة في الحزن، لكنه الحزن الذي لا يدفعك إلى الاكتئاب، بل يضعك في لحظات الوجود عبر اكتشافات المؤلف لأدق الأحداث في السينما والتصوير والعدسة والازدحام الإنساني الثقافي وغير الثقافي. أحسست بأن عبد الله حبيب في كتابه هذا مثل عامل مرهق يشعر بمسئولية وظيفته في الحياة المتمثلة في أنه مجبر على أن يمسك بمصفاة خرافية الشكل وثقيلة تنصب فيها كل أحداث الحياة الثقافية والاجتماعية والوجدانية وكميات سائلة كبيرة من الضحكات والبكاءات فتنزل منها قطرات صغيرة نقية لا يقوى على مشاهدتها سواه لتنساب وحدها في كتاب ليس هو رواية ولا بحث ولا نقد في السينما ولا خواطر وليس هو ديوان شعر. لا أستطيع أن أتصور الوقت الذي بذله ليس في الكتابة والـ «تدوين» وليس في تعب حمل المصفاة الثقيلة خرافية الشكل، ولكن في تركيب شكل الكتاب المختلف الفصول والمضامين والأشكال والتوقف ثم الانتقال للمشهد الآتي حين يصعب على السينمائي أن يبني قصة واحدة لها فكرتها الأساسية وذرواتها الصغيرة وشخوصها فيما تمكن كاتب التشظيات من بناء كتابه المختلف الفصول والأمزجة وأدوات التعبير بهذه السلاسة والانسيابية.
بذل الكاتب والناشر جهداً في توفير كتاب شكله يثير الرغبة في القراءة، لكني وبعد الصفحة الثلاثين بدأت منغصات قراءة الكتاب العربي تزعجني كلما أنهيت سطراً بات علي أن أطوي الكتاب بعنف كي أستدل على نهاية الكلمة. الكتاب العربي، كل المطبوعات تجد هامشاً فارغاً في نهاية الصفحة الحرة أما نهايتها في وسط الكتاب فبسبب طبيعة التجليد يصبح لزاماً علينا أن نضغط على كتلة الورق المنتهية قراءة كي نعثر على نهايات السطور. فلماذا لا نعرف نحن العرب أن نحسب عدالة الفراغات ونعطي للكلمة حقها ولكل ذي حق حقه!
زرت محلاً لبيع الأدوات المنزلية في ضاحية فوربورغ الهولندية حيث أقيم فوجدت مجموعة من كتاب يباع بيورو واحد لأنه مرتجع من مكتبات فخفض ثمنه لتعميم فائدة الثقافة. أثارني غلافه المطبوع بالأسود والأبيض. رفعت الكتاب فكان مثل الريشة خفيفاً. نظرت إلى الحروف فوجدتها مطبوعة بوضوح ومتوازنة في لونها الأسود فوق الورق الأصفر. مسافات الصفحة الواحدة محسوبة بدقة بين بداية السطور ونهايتها. وعندما طويت الكتاب لم أجد صعوبة في البحث عن نهايات الكلمات باتجاه منطقة تغليف الكتاب. فاقتنيته كي أطبع لنفسي كتاباً مثله في الجمال، وتساءلت لماذا نحن العرب لم نبلغ المرام!؟ فأحسست أن ما اكتشفته في مضمون مشاهدتي للكتاب يشبه كثيراً «تشظيات عبد الله حبيب أشكال ومضامين» بل هي ومضة من عالم جمعت قطراته الصافية في مؤلف لا يرهق المتلقي بل يزوده بمتعة الوعي والاكتشاف، لأن مبدعه كان واضحاً منذ البداية وبشاعرية أخاذة حقاً.
-
sununu@ziggo.nl
- هولندا