يعرِّف اللغويون مادة (ه ي ط) بأنها من الجلبْة والضِّجاج والصياح. ويقال: هاط فلان وهايط هيْطًا وهياطًا: ضجّ وأجلب. والهياط والمهايطة: الشرّ والجلبة. ومصدر هذه المادة: (هِياط) على وزن (فِعال)؛ الدال على الامتناع! وكأنه يحمل في هذا المقام دلالة الامتناع عن حقيقة الشيء المفقود، بالمبالغة بادعاء عكسه، الذي تعزّزه صيغة المبالغة في الفعل (هايط). يُعْرف لفظ (الهياط) و يُتداول بين فئة الشباب باشتقاقاته: (يهايط - مهايطي- تهايط - الخ).
ويُقصد بهذا اللفظ: تبجّح الشخص بما ليس له، من قوة أو مال أو غيره! وفي الأسطر الآتية سأستعير هذا المعنى وأُسقطه على جانب آخر.. قد يُظن خلوّه من ذلك ولكن العكس هو الصحيح. ففي حين إضافة (الهياط) لمحيط بيئي قائم وليكن (الثقافة)؛ سيظهر لدينا (هياط ثقافي) نسبة إلى المسكينة (الثقافة) التي أصبحت وجهة من لا وجهة له.. وتعريفًا لكل متسلّق لا مرجع له.. وهم في ازدياد ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحين يظهر لنا هذا المركّب: (الهياط الثقافي) فلا بد أن يسْتبين القارئ ماهيته، وأشك أن هناك من لم يلحظه.. فبعرضٍ لشيء من مظاهر هذا (الهياط) سيتضح للقارئ ما المقصود به، ويدعو الله أن يحميه من جلسة مع هذه العينة (المهايطية). إذ في المشهد الثقافي و في السنوات الأخيرة.. بدأ مستوى (الهياط) يتزايد و تعلو وتيرته، حتى لا يكاد يخلو محفل من أصحابه. منهم الشعراء، و(القصّاص)، وكذا الأكاديميون.. في كل وادٍ يهيمون! ضمن كل ملتقى أدبي وثقافي تجدهم، و ليس من الصعب عليك أن تميّزهم في جلسة أو اثنتين، أو حديث ومداخلة! تتلوّن مواقفهم - هؤلاء (المهايطية) - وتتشكّل، حتى لا يفوتك مشهد ثقافي إلا وقد كدّرت ناظريك بشيء من أعاجيبهم. ومما اشتُهروا به -وقاك الله وإياي-: عند الإعلان عن برنامج محفل ثقافي؛ فإنك موقن من وجود اسم أحدهم، و قد اعتدت حضوره (الثقيل) بورقة أفنى خلايا عقله، وأجهد ذهنه المتّقد إما بنظرية جديدة، وفتح باب كان مغلقًا، أو بتطبيق ما استعصى على سابقيه. فتحضر جذلاً مبتهجًا، ممنِّيًا النفس بدرس جديد مثمر؛ ولكنك تخرج تجرّ خيبتك، فكأنك أنهيت مراجعة إحدى ورقاته السابقات، المجرورات، المستهلكات من محافل قديمة! ما استجد عليك سوى عنونتها! وعلى خلفية هذا المحفل يزدحم المكان بالحضور، وتبادُل الآراء والنقاشات الساخنة حول ورقة ما، أو نظرية جديدة، أو نص جديد!....عفوا! ليس هذا بقائم في الفعالية! فهم يكثرون خارجها، ويقلّون داخلها إذا لم يتلاشوا!! ففي محافلنا الثقافية فقط.. يكون الهامش مقدَّمًا ومزدحمًا أكثر من المتن! ومما يزيد الطين بِلّة أن الواحد منهم -أعاذك الله أيها القارئ-، يأتي بكامل عنجهيته وفوقيته متباهيًا (مهايطًا) بأنه ضمن ضيوف المحفل؛ لتعلم لاحقًا بأنه ضيف نفسه، ولكن (كرامته المهايطية) تأبى عليه القول بأنه حضر (دون دعوة)! وكأن الحضور بدعوة واستضافة أصبح داخلا ضمن البروتوكول الثقافي؛ لذا فمن المعيب عليك (ثقافًا) أن تحضر بدافع الاستفادة، حتى وإن لم توجه إليك دعوة رسمية تشعرك بأهميتك!
وعلى صعيد آخر تحت هذا الباب من (الهياط) يتحقق المثل القائل: (شدّ لي وأقطع لك)، وذلك في توزيع الدعوات، وترشيح الأسماء (العاملة) في اللجان. ليصل الحال لحدِّ (التسول) في الطلب من أجل الترشح للجنة ما، أو الظهور في وسيلة إعلامية! حتى أصبحت الفعاليات الثقافية والوسائل الإعلامية تئنّ من ازدحام أسماء معينة دخلت ضمن التدوير والتكرير؛ ليتحول المشهد رغمًا عنه إلى مياه راكدة، تنتظر حجر الحراك!! ومما ابتُلي به المشهد الثقافي ذلك (المهايِط الكلامي)، الخاوي جوهريًا من كل شيء سوى عدد من المصطلحات المبهمة الرنانة، والألفاظ المتضخمة اللامعة، مع الضمير الأشهر في عالم الهياط (أنا)؛ ليشكل بذلك منظومة يدجّج بها خطابه، متترسًا خلفها في محاولة لإخفاء هشاشة مضامينه، وضحالة أفكاره. و هذا أشد وأنكى ألوان الهياط؛ فهو يصدم بـ(فلاش) سريع يصيب عين المتلقي بالعمى المؤقت عن الحقيقة؛ ولكن صاحب النظر الثاقب سرعان ما يستعيد قواه البصرية، ويكشف هؤلاء.
وهنا يا قارئي الكريم، أستميحك العذر مضطرة للتوقف؛ خشية أن تصيبك الحسرة، وتعاودني الغصّة.. فحسبي أني ذكرت لك غيضًا من فيض (هياطهم) الذي ابتلوا فيه، فعانت منهم الساحة الثقافية. وليس لنا من الأمر سوى أن ندعو لهم بالشفاء، وإن لم يكن؛ فما لهم سوى الاختفاء!
-
wadha88@hotmail.com
- الرياض