بعد موت كل مثقف سعودي يعود السؤال ذاته للظهور: كيف نحتفظ ونحافظ على قيمة المثقف المتوفَّى؟
ولا أدري لماذا يرتبط لدينا سؤال القيمة بموت المثقف لا بحياته أيضاً، وكأن لا قيمة ولا كرامة للأحياء!
وسؤال القيمة لا شك أنه ينبني على سؤال: ما حقوق المثقف سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي في السعودية؟
فالمثقف على الاعتبار هو صوت «النهضة والتنوير والمجتمع»، هو «رمز للإبداع»، وهو كذلك «نموذج للمواطن الإيجابي».. ولتثبيت تلك القيم وجعلها خط اقتداء على مستوى تفعيل المشروع الذي يتبناه المثقف أو يطرحه من قِبل السلطة الاجتماعية والسلطة الرسمية لا بد من رفع المثقف إلى دائرة الضوء، ودائرة الضوء لا تعني الشهرة الذاتية للمثقف بل أيضاً تعني التكريم والتقدير، ومن هنا خُصّت له حقوق إضافية مع حقوقه المواطنيّة، إضافة إلى كونه يمثل استثناء لا عموماً.
والاستثناء كما هو مخصوص بخصائص إضافية عن العموم؛ لأنه حامل لرؤية مختلفة وتغييريَّة وتأثيرية وممثِّل لسلطة، فهو مخصوص كذلك بحقوق إضافية عن حقوق ممثِّلي العموم، بما يمثله من قيمة تُنتج سلطة تغيير أو تطوير.
لكن يظل السؤال: مَنْ المسؤول عن بلورة قيمة المثقف؟ وكيف تتحقق تلك البلورة؟
قبل أن تكون هناك وزارة للثقافة كان من الصعب تحديد مؤسسة رسمية هي المسؤولة عن «حقوق المثقفين»، لكن بعدما أصبحت لدينا وزارة الثقافة ووكالة شؤون المثقفين أصبحتا المخولتين بتصميم «لائحة حقوق المثقفين».
لكن يبدو أن الوزارة الأولى والثانية مع وكالة شؤون المثقفين كان الاهتمام بحقوق المثقفين عبر ترسيم لائحة لتلك الحقوق خارج حساباتهما!.
ولا أعلم ما هو السبب بالتحديد، هل هو جهل القائمين على الوزارة؟ والجهل الذي أقصده هو عدم توافر خلفية تصور للائحة تنظيم حقوق المثقفين، أو غياب قدرة الإمكانيات على سَنّ القوانين الثقافية التي تضمن سلامة تنظيم الفعل الثقافي والإجراءات الحقوقية لذلك الفعل ولصانعه سواء المنتِج أو الممارِس؟
أو عدم إيمان وزارة الثقافة بالقيمة الفكرية للمثقف ودوره التغييري؛ وبالتالي بذل أي موقف لتنظيم لائحة حقوق المثقفين؟
ولا شك أن غياب تقدير قيمة المثقف لا تتحمله المؤسسة الثقافية الرسمية وحدها بل يتحمله المثقف أيضاً؛ لأن ليس هناك مطالبة جديّة ومستمرة من قِبل المثقفين لترسيم حقوقهم الثقافية، كما أن المثقفين لا يملكون وسائل ضغط على المؤسسة الثقافية الرسمية لدفعها إلى سَنّ القوانين الثقافية أو لا يعرفون كيف يملكون وسائل الضغط تلك، إضافة إلى أن المثقفين لا يملكون رؤية أو مشروعاً متكاملاً يُقدَّم إلى المؤسسة الثقافية الرسمية ليُصبح قاعدة تنظيرية للقانون الثقافي والإجراءات الحقوقية.
صحيح أننا نقرأ من حين لآخر بمن يطالب وزارة الثقافة بضرورة تنفيذ بعض الإجراءات الحقوقية للمثقف مثل صندوق المثقفين للتأمين المعيشي في حالة مرض المثقف أو عجزه، لكنها أصوات فشلت أو هكذا أعتقد، وأظن أن سبب الفشل هو غياب تكاتف المثقفين في تبني هذا المشروع والإلحاح عليه وتطويره بوصفه منهجا؛ ولذلك يظهر ثم يغيب.
وقد يقول قائل من المثقفين أو مجموعة من المثقفين: إن عزوف المثقفين عن المطالبة بترسيم القوانين الثقافية والإجراءات الحقوقية للمثقفين له ما يبرره، من ذلك عدم ثقة المثقف بالمؤسسة الثقافية الرسمية سواء على مستوى الاعتراف بتقدير المثقف أو على مستوى تبني وتنفيذ مثل هذا المشروع؛ لذا فهو يرى أن الحديث عنه أو المطالبة بها مضيعة للوقت. وأنا أرى أن هذا المبرر غير منطقي لأسباب عدةّ سأوضحها في مقال آخر.
لكن تخاذل المثقف عن المطالبة بحقوقه يجب ألا يدفع المُشرِّع الثقافي (وزارة الثقافة) إلى تغييب تلك الحقوق، ولا يبرر له استمرار الفراغ الحقوقي للمثقف، ولا يعفيه عن مسؤولية سَنْ القوانين الثقافية والإجراءات الحقوقية.
وقد يرى البعض أن الجمعية العمومية خطوة جيدة في المشروع الحقوقي للمثقف، لكني أرى أنها خطوة جيدة في المشروع التنظيمي للعمل الثقافي لا غير.
أما عن السؤال: ما خطوات المشروع الحقوقي للمثقف؟
فهي حسبما أعتقد دون التقيد بترتيب الأولويات:
1- ضبط مفهوم المثقف أولاً.
2- تبني وزارة الثقافة مشروعاً لتأليف الكتب عن رواد الأدب السعودي. وبما أنني تطرقت إلى هذه النقطة فأريد أن أعبّر عن تقديري ل»المجلة الثقافية» عن دورها الثقافي في توثيق تقدير رواد الثقافة السعودية وأعلامها سواء عبر الملفات التي خصصتها لهؤلاء الأعلام - وأعتقد أن هذا الأمر من أهم مسؤوليات الصحافة الثقافية - أو عبر إصداريها القصيبي وعبدالله بن خميس، وهو دليل على أن «المجلة الثقافية» بقيادة الدكتور إبراهيم التركي تملك مشروعاً ثقافياً، وأعتقد أن هذا مطلب ضروري لأي صحافة ثقافية، أن يكون لديها رؤية ومشروع ثقافي قومي؛ لأن الصحافة الثقافية في الأول والأخير تنتمي إلى بند «الخدمات الثقافية» التي تُقدَّم للمجتمع؛ لذلك توفير الفائدة الثقافية أمرٌ ضروريٌّ.
ولأن ما تقوم به «المجلة الثقافية» في هذا المجال مشروع ثقافي قومي فلا بد من مشاركة فعّالة معها في هذا المشروع من قِبل وزارتي «الثقافة» و»التربية والتعليم»؛ فلا فائدة من تلك الإصدارات إن ظلت حبيسة مكتبات المثقفين أو رفوف المكتبات؛ فالهدف الأهم أن تتعرف كل الأجيال على روّاد الثقافة السعودية وأعلامها في الماضي وفي الحاضر، وهذا حق من حقوق المثقف.
وهذا دور وزارة التربية والتعليم في تعميم تلك الإصدارات على المكتبات المدرسية، خاصة أن المكتبات المدرسية تعاني فقراً في مراجع السير الذاتية لرواد الثقافة السعودية وأبرز أعلامها.
لست هنا في صدد الحديث عن أسباب غياب الشراكة في التنمية الثقافية بين وزارتي «الثقافة» و»التربية والتعليم» أو أهمية تلك الشراكة؛ فالحديث عن هذا الموضوع طويل ومتشابك، لكنها إشارة إلى أن أهمية التشارك بين الوزارتين خطوة مهمة لتفعيل التنمية الثقافية للأجيال.
إضافة إلى الزاوية الأسبوعيّة التي يكتبها الدكتور إبراهيم التركي تحت عنوان «إمضاء»، والتي توثق لأبرز أعلام الثقافة السعودية في المجالات المختلفة بأسلوب موضوعي ولغة تشريحية هادئة، وأهم من كل ذلك أن هذه الزاوية ملتقى لكل المثقفين من كل التيارات الثقافية من التقليديين بمستوياتهم ومراحلهم والحداثيين بمستوياتهم ومراحلهم وتقلباتهم.
وليس الدهشة قاصرة على أن الزاوية استطاعت أن تكون ملتقى لكل التيارات بل هي أيضاً تشمل قدرة التركي على توفير ضمان من خلال أسلوبه لتكافؤ فرص التوازن بين منجزات كل شخصية وفق تدرج منجزها التاريخي بعيداً عن المدح والذم اللذين يفسدان عقلية الموضوعية والتحايد.
وهذا حق من حقوق المثقف أن يجد من يكتب عن منجزه الثقافي ودور ذلك المنجز في تطور المجتمع، أو إضافة علامة تميّز للمنتج الثقافي السعودي.
ولذلك أعتقد أن على التركي أن يطور تلك الزاوية؛ لتصبح مشروعاً توثيقياً للأعلام السعوديين في المجالات كافة، وأن تتبنى وزارة الثقافة هذا المشروع التوثيقي من خلال إشراف عام من التركي عبر تنفيذ ورش ثقافية يعمل فيها خريجو أقسام اللغة العربية والصحافة والتاريخ من الذين ينتظرون دورهم في التوظيف بمكافأة رمزية من قِبل وزارة الثقافة.
وبذلك نستفيد من طاقات الشباب غير الموظَّف. ويمكن أن يُفسح المجال أيضاً للمتطوعين من المثقفين والأكاديميين في أقسام اللغة العربية والتاريخ والصحافة فيُحسب لهم سواء على مستوى خدمة المجتمع أو تفعيل دورهم الثقافي الإرشادي، أو من طلاب الدراسات العليا الذين تتفق أطروحاتهم مع مضامين وأهداف تلك الورش الثقافية.
3- سَنّ جائزة ثقافية كل عام تشرف عليها وزارتا الثقافة والتعليم العالي في مجالي النقد والأدب تحت اسمين ثابتين لأبرز الأعلام في هذين المجالين.
4- تشجيع وزارة الثقافة الأندية الأدبية على إحياء الرموز الثقافية في كل منطقة وأهم الأعلام الثقافيين في هذه المنطقة ضمن البرنامج الثقافي الموسمي لكل نادٍ، واعتبار ذلك هدفاً ثقافياً ثابتاً على الأندية أن تلتزم بتحقيقه.
وتستطيع الأندية الأدبية أن تحقق هذا الهدف من خلال إشراك إدارتي التعليم العالي والتربية والتعليم في منطقتها، وبذلك سنتمكن في سنوات قليلة من إنجاز مشروع قومي ثوثيقي ثقافي لرواد الثقافة وأبرز أعلام الثقافة السعودية في الماضي والحاضر.
5- تأسيس هيئة للمثقفين تكون فعلية وحقيقية لا على شاكلة هيئة الصحفيين!
6- السماح بتأسيس رابطة «للمثقفين المستقلين» لا تخضع لوائحها وقوانينها الثقافية وأنشطتها للوائح وزارة الثقافة، وترتبط إجراءاتها الحقوقية بمؤسسات حقوق الإنسان في السعودية، ويخضع أعضاؤها في حالة المحاسبة لقوانين وزارة الداخلية إذا ارتكب أحدهم ما يهدد الأمن القومي للبلد أو وحدة المجتمع.
7- وأكرر المطلب الذي تعب الأستاذ «منصور الشقحاء» من تكراره: «تكوين صندوق تأميني» للمثقف في حالة عجزه أو مرضه، يكون هذا الصندوق التأميني تابعاً لكل نادٍ أدبي، ويمكن أن تتعدد مصادر تمويل ذلك الصندوق، فمنها إسهام الوزارة في جزء من تمويله، وهي «مساهمة مُلزمة»، ومنها مساهمة أعضاء الأندية الأدبية وكل مثقف ينتمي إلى الجمعية العمومية من مثقفي المنطقة، وهي «مساهمة مُلزمة»، وتشجيع بقية مثقفي المنطقة ممن لا ينتمون إلى الجمعية العمومية على المساهمة التطوعية غير الملزمة، وتحفيز ذلك التشجيع من خلال توفير امتيازات معينة لكل مثقف تطوع بالمساهمة النقدية في تمويل هذا الصندوق، إضافة إلى تشجيع رجال الأعمال للمساهمة في تمويل ذلك الصندوق أيضاً وفق تحقيق امتيازات معينة لهم، ومنها أيضاً تشجيع كل مثقف يقدم ورقة له في البرامج الثقافية أو الملتقيات الثقافية للأندية الأدبية بأن يتبرع بجزء من مكافأته لهذا الصندوق إما في منطقته أو المنطقة التي استضافته، بشرط ألا يكون من المثقفين الذين ينتمون إلى الجمعية العمومية؛ لأنه بطبيعة الحال من الفئات المُلزمة بالدفع للصندوق، إلا إذا رغب في هذا الأمر، كما يمكن الاستفادة بجزء من الرسوم التي يدفعها أعضاء الجمعية العمومية في تمويل هذا الصندوق، ولا بد أن يخضع لإجراءات تنظيمية في الصرف؛ حتى لا يكون هناك تلاعب أو فساد مالي.
حزمة الأفكار تلك قد تُعين المُشرِّع الثقافي على بلورة تصور أوليّ للإجراءات الحقوقية للمثقف، وقد لا تُعينه، لكن بالتأكيد كثير من المثقفين يملكون حزماً أخرى قد تتشابه مع حزمي، وقد تُضيف إليها، وقد تختلف، ورغم كل ذلك نحن نشترك في هدف واحد هو السعي إلى تأليف منظومة إجراءات حقوقية للمثقف وقوانين لتنظيم العمل الثقافي، وأعتقد أن هذا الملف لا بد أن يُطرح بجدية على طاولة مؤتمر المثقفين القادم؛ حتى ينعم المثقف السعودي بمظلة استحقاقية ضامنة لحقوقه في الداخل وفي الخارج، وحامية له من تقلب الزمان، وحتى لا يتحوّل المثقف السعودي إلى «خيال مآتة»!
sehama71@gmail.com
- جدة