في التمثل تهمل الاختلافات الصغيرة لصالح التشبهات الكبيرة؛ حيث يتكرر الأفراد وهم يتجمّعون تحت هوية المفهوم، وهنا تدخل أهمية استخلاص التجربة الواقعية بوصفها شروط الاختلاف والتكرار.
الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز
وبحسب دولوز يكون التمثل لمصلحة مفاهيم ومبادئ أخرى بالنسبة إلى فكر «من صورة أخرى»؛ ومن هنا تتشكل المهمة الإيجابية في الاختلاف. لكنّ مجالنا الثقافي الحديث وكذلك المعاصر شهد مثقفين ومفكرين ملتزمين بالحتميات، وآخرين لا يلتزمون بشيء، أو أنهم معارضون لكل شيء، ولم يُجْدِ هذا ولا ذاك لأنه ينافي العقل والمعرفة، ولا بد من وجود نصاب في مكان ما، يتحقق فيه التوازن بين الالتزام بأهداف الأمة واستقلال الرأي والتحليل.
وقد ابتليت الأمة بمن تمثلوا بالغرب وروجوا لفكره باعتماد السلبية المطلقة تجاه أُمَّتِهم العربية، بحجة أن الأوضاع السائدة شديدة التردي لدرجة تريليون تحت خط التخلف! وأن تلك هي مهمتهم التاريخية التي تستلزم النقد الجذري الهدام، ولم يتوانَ أحدهم عن إعلان انحيازه التام للثقافة الغربية في حوار أجري معه في إحدى الصحف المحلية؛ لأنه - كما يقول - بحكم ثقافته! يجد مكانه فيها. وهو نتاج لها بحكم قراءته لما تُرجمَ من الفلسفة اليونانية وعلوم الغرب وأفكاره وآدابه، وفي جهل تام بصيرورة التاريخ التي تثبت أن العلاقة بين الحضارات هي علاقة تأثر وتأثير، وأن تاريخ الحضارات الشمولية هو تاريخ إنجاز ووعي بدأ في القرن الثاني عشر قبل الميلاد في تكاتف الحضارات الشرقية التي وصل إشعاعها إلى أوروبا، وتطور ليصبح نظاماً عالمياً لتبادل الأفكار والسلع والمعلومات والتقنية في بداية القرن الثالث عشر الميلادي؛ ومن هنا يأتي معنى عالمية الحضارة؛ فالحضارة الإغريقية لا تُفهم بشكل عميق إلا باعتبار حضارة ما بين النهرين ومصر، والحضارة الأوروبية الحديثة لا تُفهم إلا باعتبار الحضارة الإسلامية، كما أن الحضارة الإسلامية لم تَقُم بمعزل عن الثقافة الفارسية والبيزنطية. يعلن «هنتنغتون الثاني» أن «الحضارة الغربية هي حضارة استثنائية، وأنها ليست امتداداً للحضارات القديمة»، متمثلاً قول سير هنري ماين: «إذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء لم نجد شيئاً يتحرك إلا وهو يوناني في أصله»، معلناً بذلك تأبين حالة التراكم العربية، ووفر على نفسه مراجعة النقد الذاتي الذي يُعدّ الشرط الأول للتطور، واعتنق الأفكار الأساسية التي خلفتها التركة الاستعمارية الغربية، وذلك باختصاره للحضارة البشرية كلها على نسق الحياة في المجتمعات الغربية الرأسمالية وحدها، وهي نظرة تتصل بالتصوير المتسق له ولأمته في كتابات المستشرقين التي لا تُمثل الحقيقة الجوهرية للثقافة، وإن كانت ترسم الشكل القائم، الذي ساعدت على إقامته ظروف العنصرية والإمبريالية، وهو ما ركز عليه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق «orientalism» وفي استخفاف واضح بعقل القارئ والمثقف الواعي حاول صاحبنا «عالم الجهلولوجيا» أن يسرد بعض الحقائق عن تخلف العالم العربي؛ ليخفي تكراره الواضح لصموئيل هنتنغتون وأطروحته «صدام الحضارات» تلك الأطروحة السياسية التي استنصرت بدعاوى ثقافية لتثبيت مركزية الولايات المتحدة وسيطرة القطب الأوحد على العالم، بالاتكاء التبريري على واجب تصدير الحضارة لمن يعانون من أزمة تحضر! وتكراره لهنتنغتون يبدو واضحاً؛ فقد لجأ في حواره إلى التعميم واصطناع الغموض، وكان يقفز من قضية إلى أخرى في الإجابة الواحدة، ومن مثال إلى آخر بمناسبة وغير مناسبة، كما أن الأفكار تتكرر، والتحليل، والشواهد تتداخل في غير نظام، والتحليل مضطرب، والاستدلال يعج بالمغالطات التي تُشكك بالعقل العربي، وتنسف الحضارة العربية من الجذور ليحل محلها النموذج الغربي، وذلك حين سأل: أليس التعليم هو العامل الأول في التغيير؟ وقد اهتم العرب بالتعليم فعمموه وأنشؤوا الجامعات ومراكز البحث العلمي ومعاهد التدريب؟ أجاب «هنتنغتون الثاني»: «إن التخلف ليس عَرَضاً طارئاً بل هو واقع أصيل وراسخ وعنيف المقاومة وشديد التركيب والتعقيد والتماسك، إنه بنية قوية مصمتة وذات تحصينات تلقائية صامدة، إنها تملك آليات دفاعية فاعلة وشرسة لا يمكن اختراقها إلا بجهود استثنائية كثيفة ومنظمة وشاملة؛ لذلك لا يصح أن نستغرب وجوده وكأنه شيء طارئ؛ فهو كيان عريق الوجود وعميق الأصالة؛ فأصالته (التخلف) وأولويته وهيمنته التلقائية المطلقة تقتضي تلقائياً استمراره إلا إذا أوقف تدفقه التلقائي بصوارف أقوى من هذا التدفق التلقائي..». ومن قفزة إلى أخرى على طريقة هنتنغتون في أطروحته، ينتقل «هنتنغتون الثاني» بالقارئ إلى موضوع النُخَب الفكرية في البلدان العربية وموقفها من الحضارة الأوروبية، محاولاً أن يستر وجه الغرب الاستعماري الذي كشفته كتابات عبدالوهاب المسيري فربطها بجانب ثانوي عند «المسيري» وهو استلهامه للفكر الماركسي؛ ليمارس بذلك نوعاً من تعمية الرؤية على القارئ، غير عابئ بالتناقض الذي وقع فيه حين تجاهل الأصل التاريخي والموضوعي الذي قامت عليه كتابات عبدالوهاب المسيري، وهو تحديد العلاقة بين المستَعْمِر الذي مثلته الدول الأوروبية في العدوان الثلاثي على مصر ومساعدتها للصهاينة في حرب 1967م وما تلاها من حروب استنزاف واحتلال للأراضي العربية، وبين المستَعْمَر وهو الدول العربية التي احتُلَّت أراضيها واستُنزفت مواردها المالية في التسلح، وفي تعبير مبتسر يقول «هنتنغتون الثاني»: أما عبد الوهاب المسيري فقد تراكم في نفسه كره الاستعمار فربط هذا الاستعمار بالرأسمالية وبالبلاد التي تمثلها، كما كانت أيديولوجيته الماركسية تؤجج هذه الكراهية..»؛ ليصرف نظر القارئ عن حقيقة الصراع القائم والمقبل، وهو امتداد للصراع القديم في شكله الجديد، صراع بين الشعوب المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية مع القوة الإمبريالية المهيمنة عالمياً، سواء تحت غطاء الليبرالية أو أي غطاء آخر. وهذا الصراع هو ضد الغرب وسياسته الاستعمارية، لا ضد الغرب شعوباً وحضارة متقدمة، استقبلتها الأمم وتمثلتها للنهوض على نموذجها التنظيمي والصناعي والعلمي والعمراني.
ثم أسقط «هنتنغتون الثاني» مكره على إدوارد سعيد ليبرز كيف أن المسافة بين العرب والغرب تزداد وتتعمق، وأن السبب الرئيسي في رأيه هو إدوارد سعيد؛ إذ يقول: «لقد أسهم إدوارد سعيد في توسيع الفجوة بيننا وبين حضارة العصر، ونسي أن قدراته بنيت بمكونات غربية. وأن كل الأدوات التي استخدمها في نقد الغرب قد اكتسبها من هذا الغرب نفسه، كما نسي أنه لولا اهتمام الغربيين به وبفكره لما كان بهذه الشهرة المدوية، فلو بقي في حدود العالم العربي القاحل لما عرفه أحد خارج دائرته الضيقة المحدودة..». وفي هذا ترويج واضح للدعوة التي استنصرت بها أطروحة «صدام الحضارات» حيث يقول صموئيل هنتنغتون: «في الماضي كانت النخب في المجتمعات غير الغربية هي أشد ارتباطاً بالغرب، فقد نالت قسطاً من التعليم في أوكسفورد والسوربون أو ساند هيرست، وتشبعت بالمواقف والقيم الغربية، هذا في الوقت الذي ظل فيه السكان في البلدان غير الغربية غارقين في ثقافتهم المحلية. أما الآن فهذه العلاقة قد أصبحت معكوسة؛ فهناك ظاهرة نزع للتغريب والعودة إلى الأصول والتراث المحلي..»(2) هل أراد هنتنغتون الثاني أن يقف عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد صفاً واحداً، ثم يقبلون فوهات مدافع الاستعمار الغربي وجنازير دباباته التي سحقت أهلهم في سيناء والسويس والجولان وفلسطين، ثم يرددون: نشكر لكم موتنا على أيديكم؟!
لقد قاد إدوارد سعيد المعركة الفكرية ضد الإمبريالية وربيبتها الصهيونية في معقلها الحصين الولايات المتحدة الأمريكية، واستطاع بسلاح العقل والمنطق أن يفضح أهدافها، وأن «يضع فلسطين في قلب العالم، ويضع العالم في قلب فلسطين» كما قال محمود درويش؛ إذ جرَت على نهجه كتابات بأقلام أحرار المثقفين ونوابغ المفكرين في العالم الغربي الذين ناصروا القضية الفلسطينية وكشفوا وجه الصهيونية للعالم الغربي الحر، ومنهم: نعوم تشومسكي، نورمان فينكلشتاين، روبرت فيسك، وهاوارد زين. وتصدى إدوارد سعيد لعمالقة الاستعمار في كتابيه «القومية والاستعمار والأدب» و»الثقافة والإمبريالية» وعلى الرغم من أنه ينتمي إلى أقلية بروتستانتية في فلسطين لكنه تشرب ثقافة الأغلبية المسلمة فيها، وتمثلها ثم دافع عنها بكل شجاعة، بداية: في كتابه «الاستشراق» فقد كشف فيه حقيقة العالم المزيف الذي أنشأه المستشرقون، ووضح حقيقة الدين الإسلامي الذي شوهوا معالمه، ثم في كتاب «تغطية الإسلام» الذي حمل دلالة عبقرية في عنوانه، وهي أن الباحثين والمستشرقين الغربيين يفترض أن يقوموا بتغطية أخبار الإسلام والتعريف بحقيقتها، لكنهم يمارسون في الواقع عبر أجهزة الإعلام تغطية وإخفاء حقيقته الرائعة بوصفه مكوناً روحياً يسع الإنسانية كلها. وفي حوار أجراه سلمان رشدي صاحب كتاب آيات شيطانية مع إدوارد سعيد بعد صدور كتابه «بعد المساء الأخير» عام1986م سأله رشدي بخبث محاولاً اقتناص إجابة تسيء للإسلام: أنت تقول بأن الإنسان حين يحدد هويته كفلسطيني فإن ذلك يعني قدومه من الثقافة الإسلامية، مع أنك لستَ مسلماً، هل هذا يطرح مشكلا؟ وهل هناك خلافات بشأن ذلك؟ أجاب ادوارد سعيد: «لا مشكلة لدي، وليس لي أية تجربة في خلافات من هذا النوع».
وبعد: جاء في مقدمة الحوار الذي أجري مع «هنتنغتون الثاني» أنه يعمل على إنجاز مشروع فكري يستهدف تحليل بنية التخلف وتشخيص مواضع النهوض. ويقال إنه لا يجب أن تُقرأ المقدمات إلا عند النهاية. لكن بعد هذا التطواف البسيط على أفكاره يجب على العكس من ذلك أن تُقرأ الخلاصات في البداية؛ لأن الخلاصة تجعل قراءة الباقي غير مفيدة.
***
1 - انظر: جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ترجمة وفاء شعبان، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009م
2 - عن ترجمة خلدون الشمعة لأطروحة «صدام الحضارات» المنشورة في الشرق الأوسط 21- 23-1-1995م.
الرياض