يسكنه التاريخ؛ فتحركُه شواخصُه، وتشجيه طلاسمُه، ومن أجله ألف واستهدف؛ فملأ أوراقًا وفتح آفاقاً، وبسببه غاب في التراب، وسكن اليباب، وأمضى الشطر الأكبر من حياته وهو يدقُ أعماق الأرض بحثًا عن ساكنيها؛ فقرأ لغاتٍ أُخرَ، وعرف أقوامًا منسيين، ووجد أبوابًا تفضي إلى أبواب.
كان يسيرًا عليه أن يتكئ في مكتبه وبين كتبه فيقارن الروايات، ويقدر المسافات، ويتصدر في المساءات ليعلن ما حكاه المؤرخون مفاضلاً ومفضلاً، لكنه آثر دربًا غيرَ مألوفٍ؛ فهيأ نفسه ودرسه وتلاميذه للعيش في صحراءَ مقفرةٍ، ومعهم أدواتهم التي اعتدنا رؤيتها مع البنائين لا الأكاديميين، دافعُه المعرفة والإصرار؛ ليخرج – بعد نأيٍ ولأْي ٍ- باكتشافه مسارب «قرية الفاو».
كان فينا صغارٌ لم يأبهوا، وكبار استصغروا، وإعلام محدود المدى؛ فلم يفهم الناس المهمة والأهمية، وقابله صاحبكم - قبل ربع قرن - لصفحته الأولى والأثيرة (قراءة في مكتبة) فرأى منه العزم والاعتزاز؛ فما فات مجردُ بداية، وفي الآتي – كما أمِل – كفاية.
ولأن طبيعة الشباب مرأى الفضاء المفتوح الموصل للغد؛ فلم يعبؤوا بما تم قبلاً أو سيتم بَعداً، ولأن الشيوخ يتحفظون عن الحفاوة المبالغة في الآثار وربما كرهوها فلنتخيل أي بيئةٍ احتوته، وأي تحفيزٍ وجده.
الجميل أنه لم يُحبط؛ فوصل التنقيب بالمقاربة والمقارنة، وشهدناه – رغم تقلبه مناصب إدارية أكاديمية وشوروية - محتفيًا بكشوفاته الأولية، مُطلاً عبرها على العالم الثقافي بصورته الأولى معتمرًا قبعته وبنطاله، ومعيدًا صورته القديمة التي لم تتبدل مع مرور الزمن وتوسطه عقده الثامن.
في احتفالية تدشين إصدار الجزيرة الثقافي عن «ابن خميس» كان الباحثُ هو الحاضر؛ فما اكتفى ببضع كلماتٍ مجاملة؛ بل عمد إلى الخلاف العلمي بينهما حول مكان قبيلتي «طسم وجديس» وارتباط ذلك بموقع قبيلة «كندة» وشرحه لجدلٍ سابق وتطلع لاحق؛ فالعلم اليقيني هو الصلة والبوصلة مشددًا على تمسكه برؤيته، كما تمسك الشيخ «إبن خميس» برؤيته كذلك، ومتمنيًا الوصول إلى الحقيقة، ولو بعد حين.
أشعل فينا – غيرَ المتخصصين – الرغبةَ القوية في معرفة أبعاد الخلاف ووجوه الاختلاف، ونحسبه أعاد «أبا عبد العزيز» إلينا بالافتراق مثلما أعاده الآخرون بالوفاق؛ فقد وعينا علمية غائبة، وحوارًا حرًا، وتعالق شيخ مع تلميذه دون ترفع، وثناء تلميذ على شيخه بلا تصنع، ولعله يجلو القضية في مقالةٍ «بالثقافية».
كذا يجيء الوفاء للعِلم والعالِم، ولم يكن غريبًا عليه؛ فقد وفى لشيخه الآخَر المؤرخ الأثري اللغوي الشيخ عبد القدوس الأنصاري(1324-1403 هـ) - عليه رحمة الله - فرغم أن «المنهل» – وهي مدرسةُ أجيال – لم تعد كما كانت في عهد مؤسسها فقد ظل حفيًّا بها؛ يسندها بمشورته ومتابعته، وما يزال يذكر مؤسسها ويُذَكر به.
الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن محمد الطيب الأنصاري ( المدينة المنورة – 1935 م) أحد أبرز الرواد الأكاديميين؛ فقد واصل مسيرته من التخصص في اللغة العربية بآداب القاهرة مكملاً في الدراسات السامية بجامعة «ليدز» البريطانية (1966م)، وأمضى أكثر من ثلث قرن أستاذًا ورئيس قسم ووكيلاً وعميدًا، كما شارك في دورتين لمجلس الشورى، وما فتئ – حتى اليوم – ذا حضور ثقافي واجتماعي نشط، وله كتب مطبوعة عن «المتنبي وحائل وخيبر والعلا ومدائن صالح والجوف وتيماء والبدع والطائف ونجران والرياض والفاو وغيرها» من منظور أثري، عدا مخطوطاته ومشروعاته البحثية والمقالية المُحكمة الأخرى.
الأثر يبقى
Ibrturkia@gmail.com