-1-
إن السؤال الملحّ اليوم، بعد أكثر من نصف قرنٍ من شِعر التفعيلة، إلى أين سيصير ذلك الشِّعر؟ إلى أين تلك الدواوين التي تملأ الأرفف، ولكنها ما تزال خارج أرفف الذاكرة العربيّة، التي ما برحت «أراشيفها» لا تستدعي إلّا المتنبّي، أو حتى الشِّعر الجاهليّ، ولا تَحمل من أغصان الشِّعر الحديث إلّا بعض العناوين والشذرات المشهورة من هنا وهناك، ولدَى بعض المهتمّين، وليس إلّا؟
ولستُ أعزو هذا إلى غياب الذاكرة الشفويّة، بل إلى غياب الذاكرة الفنّيّة العربيّة.
إن أبنية القصيدة العربيّة لا تختلف في طُرُزها عن نظائرها في فنّ العمارة العربيّة، الباقية آثارها المُعْرِقَة المُغرقة في القِدَم، إنْ في اليَمَن، أو العراق، أو مدائن صالح، أو البتراء، أو التي تطوّرت في العصور الإسلاميّة، من بغداد إلى الحمراء. حيث نَمَطٌ ذوقيٌّ خاصٌّ، قائمٌ على التوازن والتماثل والتناظر والنمنمة. وإنما مَثَلُ مشروع قصيدة التفعيلة في الشِّعر العربيّ، إذن، كرجلٍ جاء إلى قصرٍ شامخٍ مشيدٍ، من تلك القصور العربيّة أو الإسلاميّة، فإذا به تنتابه حالةُ نَزَقٍ معرفيّة وذوقيّة، قائلاً: وعلامَ هذا العناء «الكلاسيكي»؟! لنَكْتَفِ بأخذ لَبِناتِ هذا البناء المُحْكَم، المبنيّ على طرازٍ فنّيّ بالغ التعقيد، ولنرصّها رصّاً، كيفما اتّفق، أو نركمها رَكْماً، على غير نظامٍ محدّد! ثم لنُسَمِّ هذا الرصيف، أو هذا الرُّكام- أو سَمِّه ما شئتَ؛ فلم تَعُد التسميات ها هنا مهمّةً ولا اللغات معبِّرةً - قصراً مشيداً! بل سنزعم أنه موزونُ الأركان والأعمدة والزوايا، وأنه كالقصر الأوّل، لا فرق ما دام قد حافظ على الوحدة التكوينيّة الأوّليّة في القصر، ولا يهمّ التصميمُ المعماريّ، ولا هندسةُ البناء، ولا حتى البناء من الأساس! بل سنُتْبِع الكذبة الأولى بالقول: إن الأنقاض التي ركمناها، بعبقريّتنا المستحدثة، والمستمدّة من بقايا القصر التاريخيّ، هي عملٌ متجاوزٌ الروعة، بل أكثر إبداعيّة وتعبيراً عن رقيّ العقل البشريّ الحديث ممّا أنشأه الأسلاف عَبْر رصيد تاريخهم في النشوء والترقّي، حضاريّاً وفنّيّاً. وبعدئذٍ سوف نُعلن نظريّةً معاصرةً تبشِّر بتحرّرنا من هذا العناء، وتَفَصِّيْنا من ذاك الغباء، اللذين كانا يستغرقان الأسلاف في بناء بيوتهم وقصورهم ومُدنهم!
أ فيقول بهذا قائلٌ، ويظلّ يَحكم له عاقلٌ أو مجنونٌ بعقل؟!
أ وليس هذا ما فعله أربابُ قصيدة التفعيلة بالقصيدة العربيّة؟!.. أم على عقولٍ أقفالها؟!
-2-
وعلى الرغم ممّا للشِّعر العاميّ من جنايةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة على اللغة العربيّة الفُصحى- وإنْ هَوَّنها العاطفيّون- فإنّ من الحقّ القول إن ذلك الشِّعر من حيث بناء القصيدة لأكبر دليلٍ على هُراء الحداثة الشِّعريّة العربيّة حين تَفِرّ من نظام القصيدة بحُجّة أنه لم يَعُد مستساغاً، وأنه ما قبل حداثيّ، أو لم يَعُد الشاعر اليوم يستطيعه(1). وقديماً قال الخليل بن أحمد لأولئك:
إذا لم تستطع شيئاً فدَعْهُ
وجاوزه إلى ما تستطيعُ!
لا يكلِّف الله نفساً إلّا وسعها، مَن لا يستطيع ركوب البحر، فليركب البرَّ، وليس فرضَ عينٍ أن نكون جميعاً شعراء!
لقد حافظت القصيدة العاميّة، والنبطيّة بخاصّة، على فنّيّات القصيدة العربيّة البنائيّة، التي يتبرّم بها شعراء التفعيلة، ويولِّي منها كُتاب قصيدة النثر فراراً ويُملؤون منها رعباً! فها هم أولاء شعراء العاميّة يَملؤون الدنيا عجيجاً شِعريّاً، وهم يتنفّسون البحورَ والقوافيَ تنفُّساً كالهواء، شِيباً وشُبّاناً، رجالاً ونساء، وأطفالاً، أُميّين وغير أميّين. دون أن يتعلَّموا عِلْم العَروض، وهم لا يعرفون شيئاً عمّا يسمَّى عِلم القوافي. بل إن شروط القصيدة العاميّة العَروضية أصعب من شروط الفصيحة؛ فالبيت من الفصيح قد يُصبح شطراً واحداً فقط من العامّي، والقصيدة تأتي بقافيتين لا بواحدة، على رَوِيَّين مختلفَين في الشطرين. وهو نظامٌ في التقفية معروفٌ في الموشّح، وفي الشِّعر الأوربيّ الكلاسيكيّ، كالسوناتات، غير أنه هناك يتعدّد ويتنوّع، في حين تكتفي القصيدة النبطيّة بترديد قافيتين. وهو ما لا نظير له في الفصيح السائد، اللهم إلّا من نحو قول (المتنبي)(2):
ماذا يَقولُ الَّذي يُغَنِّي
يا خَيرَ مَن تَحتَ ذي السَماءِ؟
شَغَلتَ قَلبي بِلَحظِ عَيني
إِلَيكَ عَن حُسنِ ذا الغِناءِ!
مع أن «يُغَنِّي»، و»عيني»، وإنْ اتّفقتا في الرَّوِيِّ، فإنّ الثانية ذات رِدف، وهو الياء قبل النون، والأولى خَلَت منه. فقد جاءت الكلمتان اتّفاقاً هكذا لا بقصد تقفية.
وما ضاق بذلك هؤلاء الشعراء العاميّون، ولا زعموا استعصاءه على قدراتهم الفطريّة، ولا بأنه قيدٌ دون التعبير. وكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له، ولكُلّ فنٍّ أصوله، ونظامه، وقوانينه الخاصّة والضروريّة. فأيّ صعوبةٍ يزعمها بعض شعراء الحداثة بلا حداثة ولا شِعر؟! ومن الحقّ أن معظم من سُمُّوا شعراء حداثة في جيل الثمانينيّات في السعوديّة- على سبيل المثال- هم إمّا شعراء نَبَطٍ، يُحمد لهم اتجاههم إلى الفصحى، غير أنهم ظلّوا تجريبيّين؛ ولذلك ربما عاد بعضهم إلى العامّيّة، أمِّهم الأُولى. ومنهم ناشطون حركيّون، أكثر من كونهم ذوي مواهب حقيقيّة، تؤهّلهم لما يدّعون من تجديد. وهو ما عَبَّرتُ عنه في كتابي «حداثة النصّ الشعري في المملكة»، 2005، إذ أشرتُ إلى: أن هناك أفاقاً «مسقبليّة أكثر نضجاً وتخلّصاً من عثرات المراحل الانتقاليّة التي مرّت بها القصيدة الحديثة، إبّان السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي، بين تيارٍ تقليديّ كان مسيطراً، وتجارب جديدة، كانت تتلمّس طُرُقَ التجديد، دون تأسيسٍ رصينٍ يؤهّلها جِدِّيّاً لذاك، فيما فريقٌ ثالثٌ لم يكن يعنيه من الأمر- فيما يبدو- أكثر من أضواء الثورة والشهرة الآنيّة... ومُحَصِّلة الاستقراء تزعم أن القصيدة الحديثة اليوم تقف على مشارف عهدٍ جديد... يمكن أن نطلق عليه (الحداثة الأصيلة، أو الأصالة الحداثيّة)، تقوده شبيبةٌ، جمعتْ إلى المواهب تعليماً أغنَى، وفكراً أرحب، قمينَين بأن يبعثا لديها وعياً بتراثها، وإدراكاً أعلى بمسؤوليّاتها صوب التحديث.»(3) جيلٌ من الشعراء والشواعر المتميّزين بحقٍّ اليوم، مواهبَ ولغةً وثقافةً. وهم يكتبون نصوصاً ما بعد حداثيّة، يستلهمون التراث، ويبنون عليه (أو منه) جديدَهم، غير أن الإعلام والمنابر الأدبيّة ما زالا - مع الأسف- يدوران في فلك الأسماء الحداثيّة العتيقة، ولا يَريان سواها، حتى وإنْ توقّف أصحابها عن كتابة الشِّعر منذ سنين.
أجل، لقد وصل شعراء العاميّة إلى أفقٍ مختلفٍ من توسيع دائرة بحور الشِّعر العربيّة الخليليّة، دون أن يَتَخَلَّوا عن الوزن والتقفية، كما فعل شِعر التفعيلة. ذلك أن من سُنن الله في الكون: (سُنّة التنوّع والاختلاف)، وإلغاء التنوّع والاختلاف في منظوماتنا الاجتماعيّة والثقافيّة يؤدّي إلى التمرّد على النمط الوحيد المفروض. ويتّخذ ذلك التمرّدُ عادةً أشكالاً حادّةً وشاذّةً تتوازى مع مقدار الضغوط لفرض النمط الواحد. لسببٍ بسيط، هو أن الإنسان فُطِر على النزوع إلى الحريّة والاستقلال بشخصيّته، وحين يشعر أن حريّته في الاختيار، وحقّه في استقلال الشخصيّة، قد صُودِرا أو انتُهِكا، يجد المذلّةَ والاستعبادَ في نفسه، فيسعى إلى كسر النمط السائد لتحقيق شعوره بالذات. مِن هنا تنشأ تلك الظواهر، التي نظلّ ننتقدها اجتماعيّاً وثقافيّاً، ونحن السبب من ورائها، بسياسة فرض القالب الواحد، ومنع ما سواه، وعدم إيجاد البدائل عمّا كانت له محاذير حقيقيّة ممّا خالف قالبنا، هذا إنْ وُجدت المحاذير؛ ذلك أن معظم ممنوعاتنا هي لأسباب تحكّميّة تقليديّة، وَفق ذرائع لا تخضع دائماً لتعليلٍ منطقيّ. وإذا كان هذا ما ينجم على المستوى التربويّ والاجتماعيّ، فمِثْلُه يحدث على المستوى الأدبيّ والفنّي. [وللحديث بقيّة!].
***
*.
(1) والموقف من العاميّة هو من حيث تمثيلها جسماً انفصاليّاً عن جسد اللغة العربيّة الواحد، رابط الأُمّة تاريخيّاً وجغرافيّاً وحضاريّاً وثقافيّاً، وإلّا فالعاميّة شأنها شأن أيّ لغةٍ في العالم، لها طاقاتها الإبداعيّة والفكريّة وعبقريّاتها الشِّعريّة. فضلاً عن كون العامّيّة العربيّة تستمدّ ذلك من جذورها التراثية وأصولها العربيّة. إن الشِّعريّة، من حيث هي، كامنة في كلّ اللغات واللهجات، وبنِسَبٍ متقاربة، كُمونَ الذكاء في العقل البشريّ، وإنْ اختلفت الأعراق. وليست المفاضلات التراتبيّة بين شِعريّات اللغات بذات أُسسٍ موضوعيّةٍ جماليّة، على الأغلب. كما أن العامّيّة الفكريّة، أو الشعبيّة الحضاريّة، لا تتعلّقان بطبيعة اللغة، فقد توجدان في الفصيح وفي الدارج، وليستا بمحلّ النظر كذلك حينما يتعلّق الشأن بالتنادي إلى حماية اللغة القوميّة من التشرذم والاضمحلال.
(2) (د.ت)، شرح ديوان المتنبي، وضَعه: عبد الرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 1: 156.
(3) انظر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2005)، حداثة النصّ الشِّعري في المملكة العربيّة السعوديّة: (قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ)، (الرياض: النادي الأدبي)، 191- 192.
الرياض
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify