أكرمني الصديق المحامي الدكتور محمد بن عبد الله المشوح كعادته بهدية قيمة قضيت معها إجازة عيد الأضحى المبارك 1432هـ وهي كتاب (العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد)، وهذا من باب الوفاء من المؤلف معالي الشيخ محمد الناصر العبودي لشيخه عبد الله بن محمد بن حميد - رحمه الله - ووفاءً من المشوح لأستاذه العبودي منذ كان طالبًا يافعًا بالمعهد العلمي في بريدة في منتصف السبعينيات الهجرية.
تصفحت الكتاب كغيره ولم أستطع الفكاك منه إلا بعد أن قرأته باستمتاع بالرغم من حجمه الكبير فهو في جزءين ب (742) صفحة إصدار دار الثلوثية 1432ه-2011م قضيت أيام عطلة العيد الأولى بمسقط رأسي بالزلفي للسلام على الوالدة والأقارب وصحبته معي.. وكنت عندما أستغرق في تتبع ما سجله الشيخ العبودي من يوميات، وما يعدده من مزايا ومحاسن الشيخ ابن حميد تعود بي الذكريات إلى أيام طفولتي عندما كنت أصطحب والدي الكفيف لزيارة الشيخ ابن حميد - رحمهم الله - في منزله بحي (دخنة) في الزاوية الغربية الجنوبية في حدود عام 1376ه - 1377ه إذ كان يزور الرياض بين فترة وأخرى قادمًا من بريدة أو عندما نقل منها وقبيل انتقاله للإشراف على شؤون المسجد الحرام بمكة المكرمة.
أذكر أنني صحبت والدي بعد عصر يوم لزيارة الشيخ ابن حميد وكان جميع الموجودين وقتها من العميان منهم: المشايخ مقبل العصيمي، ومحمد بن ردن، وصالح الأطرم، وعلي الرومي ووالدي - رحمهم الله جميعًا - بقي في ذاكرتي من هذا اللقاء ممازحتهم لبعضهم وتباسطهم وحديثهم عن النساء ومحاسنهن ومزاياهن وذكريات بعضهم بمن تزوجها وطلقها ليأخذها غيره من طلبة العلم.
لقد رأيت والدي يضحك بلا تحفظ لأول مرة. أما الانطباع الأولي للشيخ ابن حميد فهو وضع طرف (شماغه) على وجهه وفمه وهو يغمغم ويغالب الضحك بلا صوت. والموقف الثاني عندما قابلت الشيخ محمد السبيل قبل نحو خمسة عشر عامًا عندما كان مسؤولاً عن شؤون الحرمين الشريفين وحكى لي عن لقائه بوالدي وبداية تعرفه فقال: إنه كان في حدود عام 1384هـ لدى الشيخ ابن حميد عندما كان مسؤولاً عن شؤون الحرم المكي وكان هو أحد أئمة الحرم ويؤم المصلين في صلاة التراويح خلال شهر رمضان المبارك. فقال لي ابن حميد: هناك شخص يسأل عنك اسمه عبد الرزاق القشعمي تجده في باب الزيادة وأعطاني أوصافه، يقول فذهبت إليه وإذا هو يتلو القرآن بين صلاتي الظهر والعصر فجلست بجواره حتى أنهى جزءًا من قراءته فسلمت عليه وعرفته بنفسي فأخذ يهز عصاه وهو ممسك بها ويقول: والله لولا عوذتي من إبليس لضربتك بها يقولها وهو يضحك من باب (الميانة) والتباسط، فقال: إنك قبل عدة ليال قرأت الآية الفلانية بالصلاة بطريقة غير مناسبة، فقرأها فاستصوبت رأيه.. وهكذا أصبحت بيننا صحبة حتى وفاته - رحمه الله -. أعود إلى كتاب شيخنا العبودي وشيخه الفاضل محمد بن عبد الله بن حميد (المولود بمعكال بالرياض عام 1329هـ والمتوفى بالطائف يوم 20-11-1402هـ وصلي عليه ودفن بمكة المكرمة، فبالرغم من وفاة والده وهو لم يتجاوز الثانية من عمره وبالرغم من فقده لبصره مبكرًا إلا أن ذلك لم يكن عائقًا له عن طلب العلم، فقد طلب العلم على عدد من المشايخ ذكر منهم محمد بن عبد اللطيف ومحمد بن إبراهيم وسعد بن عتيق والشيخ صالح بن عبد العزيز وحمد بن فارس وغيرهم.
عين قاضيًا بالرياض عام 1357هـ وعمره 28 سنة ثم قاضيًا في سدير وقاعدتها المجمعة ثم معلمًا وقاضيًا في بريدة، وفي عام 1384هـ عين رئيسًا للإشراف الديني بالحرم المكي الشريف، وفي عام 1395هـ أكرمه الملك خالد برئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وعضوية هيئة كبار العلماء ورئيس لمجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
أعود إلى العبودي ومصاحبته للشيخ منذ وصل بريدة عام 1363هـ ومرافقته له وحضور حلقات الدرس ومشاركته الرحلات الترويحية الخلوية، واستفادته من علمه وطريقة معاملته للآخرين بالحكمة والعقل وعدم العنف في الكلام ونحوه.
سفره مع الشيخ إلى الرياض لمقابلة الملك عبد العزيز عام 1367هـ وعمره لا يتجاوز 22 سنة ووصفه للقاء الملك ثم لقاء الشيخ محمد بن إبراهيم واهتمامه بالشيخ بن حميد وتكريمه له.
واستمتعت بوصفه للحالة الصحية واكتظاظ المرضى وعدم وجود طبيب سوى واحد يعاملهم بتعالٍ وكبرياء وزهو، فأخذ يسأل كل واحد مم يشكو ولا ينتظر جوابه، بل يسأل الآخر فيكتب لهم ورقة صغيرة لصاحب الإبر ليشترك الثلاثة في حقنة واحدة - فكل واحد له ربع أو ثلث إبرة، وهكذا وليس لديه سوى حبوب دجنان أو الاسبرين.
نعود إلى الشيخ ابن حميد وحبه لسماع الأخبار المحلية والدولية، فكان يقرأ عليه الجرائد وينقل له ما يسمعه في الراديو الذي أخفاه في بيته؛ (لأن أكثر الناس يستنقص من يستمع إلى الراديو).
واللافت أن الشيخ عبد الله كان لطيف الطبع، ذواقًا للأدب؛ لذلك كانت تعجبه الكلمة البليغة الموجزة والنكتة العاقلة النظيفة.
وأعجب ببيت شعر روي له فأصبح يستعيده حتى حفظه وهو يكظم تبسمه لئلا يكون ضحكًا، وهو:
لو أن خفة عقله في رجله
سبق الغزال ولم تفته الأرنب.
وكان من طبعه ألاَّ تذكر عنده النكتة أو النادرة التي تجلب الضحك أو ما يقرب منه إلا إذا كان مجلسه خاليًا من الأغراب، مقتصرًا على واحد أو اثنين من الأحباب».
ويذكر أنه ارتاع عندما سمع أحد البدو في عفيف يطلب من السائق أن يذهب بالشايب إلى الظلال وعندما عاد من يثق به سأله عما إذا كان في لحيته شيب، فأجابه: أحسن الله إليك شيء ما يذكر ما أدري أهي ثلاث أو أربع شعرات بيض!!
كما يذكر من نباهته أنه يعرف الناس بأصواتهم فقال عنه العبودي: «والغريب أنني لاحظت أنه يعرف من أهل بريدة بأصواتهم أكثر مما أعرفهم أنا من رؤيتهم بوجوههم وأنا من أهل بريدة الأصلاء، وهو من أهل الرياض..».
وكان في مجلسه من يتحدث عن مشاق السفر للحج في الماضي على الإبل ثم على السيارات قبل تعبيد الطريق ثم الطائرات المروحية فالنفاثة.. فسكت الجميع، فقال أحدهم: وأي شيء بعد هذا يا شيخ. فسكت الشيخ عبد الله بن حميد هنيهة ثم قال: ما بعد هذا إلا أن الإنسان يفكر أنه يريد أن يذهب إلى مكة المكرمة فإذا به يجد نفسه فيها. تذكرت هنا مقابلة أجرتها معه جريدة القصيم في عددها الأول منتصف عام 1379هـ-1959م وأنه لم يستنكر غزو الفضاء عندما سئل عن الصاروخ الذي وجهته روسيا إلى القمر ولكون العبودي لم يشر إلى هذه المقابلة فيحسن بي أن أجتزئ منها ما يتعلق بالموضوع:
مقابلة مع الشيخ عبد الله بن حميد
في العدد الأول من جريدة القصيم في جمادى الأولى في 1-6-1379هـ ديسمبر 1959م وبعد أن رحب بصدور الجريدة واعتبارها خطوة مباركة وتمنى لها التقدم والنجاح، وأن يكون المسؤولون فيها من الطبقة الراقية في العلوم والأخلاق وممن لهم ملكة واقتدار على توجيه النشر إلى أسمى المراتب وممن عرفوا بالصبغة الجميلة دينًا وأدبًا وخلقًا، ونقترح أيضًا على المسؤولين فيها أن يشجعوا كل مقال ديني أو اجتماعي أو بحث علمي... إلخ.
وعند سؤاله عن الصاروخ الذي وجهته روسيا إلى القمر حتى زعمت أنه استقر على سطحه.
قال فضيلته: «أما سؤالكم عن الصاروخ الروسي، فنقول إن هذا العصر الحديث قد بلغ الغاية في التقدم الصناعي ولم يحصل هذا في العصور السالفة في جميع أنواع الصناعات، ومهما بلغوا من التقدم فليس كل ما قالوا وزعموا يكون حقيقة، بل منه ما يكون حقيقة ومنه ما يكون على خلاف حقيقته وإن كان له أصل ولهم من وراء ذلك مقاصد سياسية وغارات حربية في أوقات السلم وتخدير الأعصاب «.
وبهذه المناسبة يحسن بي الإشارة والإشادة بزوجته الثانية (نورة بنت محمد الوهيبي) - رحمها الله - بكسر الواو والهاء - عكس ما ينطق به بالقصيم (الوهيبي) بضم الواو - فهي والدة معالي الشيخ صالح ابن عبد الله ابن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء والتي كانت حافظة لكتاب الله، وتقرأ على الشيخ عبد الله - زوجها - أمهات الكتب، قال عنها ابنها الشيخ صالح: «أما والدتي فكانت تجيد قراءة القرآن إجادة تامة وتحفظه عن ظهر غيب، حتى أن والدي الشيخ عبد الله ابن حميد - رحمه الله - يتعجب من حسن قراءتها؛ لأن المعهود أن النساء لا تكاد تحسن القراءة.
فقال لها: أين قرأت القرآن؟ فقالت: «أقرأنيه أخي عبد العزيز» هذا في الوقت الذي كان تعليم النساء فيه ضعيفًا، بل السائد عدم تمكين النساء من التعليم.
ومما يلفت النظر أن شيخنا العبودي يذكر بعض المواقف المستغربة في الوقت الحاضر وغير مألوفة وقتها، فهو يذكر أنه كان لديه في بريدة راديو يستمع فيه إلى الأخبار فإذا أراد السفر أخفاه بصندوق كبير مليء بالكتب.
وعندما رافق الشيخ ابن حميد إلى الحجاز لإنجاز بعض المعاملات المتأخرة في المحاكم الشرعية عام 1372هـ يذكر أنهم كانوا يذهبون إلى مزدلفة في نزهة مسائية حتى يتمكنوا من الاستماع إلى الأخبار بالراديو الموجود بالسيارة؛ لأن سماعه داخل مكة المكرمة مستهجن وبالذات من طلبة العلم من أهل نجد، وهذا يذكرني بما سبق أن ذكره شيخنا عبد الكريم الجهيمان عندما كان يدرِّس في مدرسة تحضير البعثات والمعهد السعودي بمكة المكرمة في أواسط الخمسينيات الهجرية أنه كان يسد أذنيه وهو يمر بالسوق المكتظ بالمقاهي والحوانيت حتى لا يسمع الراديو، فقد يكون من بين ما يبثه أغانٍ أو موسيقى، كي لا يأثم.
ويذكر العبودي (ج2 - 116) «قد كان أحد جيراننا يختلس في بعض الأحيان فرصة لا يظن فيها أن أحدًا من أعضاء الهيئة يسمعه فيفتح الراديو خلسة؛ ليستمتع ببعض الألحان، ولكن لسوء حظه سمعه خلسة كذلك أحد أعضاء الهيئة فحضر بعد المغرب مع آخر من الهيئة وجلسوا في بيتنا مختفين بين جدرانه علهم يسمعون من صاحب ذلك البيت موسيقى أو غناء من الراديو فيعاقبونه على ذلك. ولكنهم لسوء حظهم ولحسن حظ صاحب البيت ذهب كل الوقت بين العشاءين ولم يظفروا ببغيتهم ولم يسمعوا الراديو تلفظ ببنت (محطة).
وهكذا لم تنجح الخطة ورجع الكمين إلى العرين مخفوض الجبين».
يقول العبودي: إنه حاول مع بعض المهتمين طلب فتح معهد علمي ببريدة أسوةً بما تم فتحه بالرياض حتى لا يتكبد أبناء بريدة السفر إلى الرياض للدراسة هناك، ولكنهم يخافون من معارضة طلبة العلم. «.. لأنهم ينظرون إلى المدارس والمعاهد على أنها الغول الذي سوف يتم بواسطته القضاء على الدين». وأن أعيان بريدة يوافقون لولا أحدهم «الذي يثق بأن طلبة العلم يتبعونه ويلينون في يده لاعتقادهم فيه الدين والغيرة عليه، فبعد أن كتبت الكتاب إلى فضيلة الشيخ على لسان جماعة من أهل بريدة فشل المشروع وعدنا لنبدأ من الألف» وانتظروا حتى وفاة هذا المعارض فتم ما أرادوا.
ولكن البعض يخاف إن افتتح المعهد أن «تدرس فيه بعض العلوم مثل: علم تقويم البلدان الذي قد يتطرق فيه إلى كروية الأرض وهو أمر لم يستسيغوه، ويعتقد بعضهم أنه مخالف لظاهر النص القرآني الذي يوحي بأن الأرض مسطحة؛ لأنها بسطت للناس كما قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (19) سورة نوح.
دعي الشيخ ابن حميد ومعه العبودي لحضور حفل أقامته المدرسة النموذجية في الطائف برعاية الأمير عبد الله الفيصل وزير الداخلية والصحة «وقد كانت حفلة جميلة وأجمل ما فيها العرض الرياضي الرائع الذي قام به طلبة المدرسة وكذلك الألعاب السويدية وهم بحق أول من قام بها من أهالي نجد، كما أن الجديد في الحفلة ذلك العرض الرائع من رسوم وتماثيل عملها الطلبة بأيديهم ولم تستطع هيئة الأمر بالمعروف أن تمنع إقامة المعرض أو عرضه لسبب واحد هو أن طلبة المدرسة النموذجية جلهم من أبناء كبار القوم».
أقول إنني قد استمتعت كثيرًا وأنا أقرأ ما سطره شيخنا العبودي وفاءً لشيخه ابن حميد، فشكرًا للمؤلف وشكرًا للناشر وشكرًا لكاتب المقدمة الشيخ صالح، وفي الختام لي بعض الملاحظات الشكلية التي لا تخل بالعمل وقيمته ومنها: عدم استمرار ترقيم الصفحات في الجزءين، بل ترك لكل جزء أرقامه الخاصة. وكذا بعض الأخطاء المطبعية التي لا يخلو منها أي عمل، وقد بينتها بقائمة سأسلمها للناشر الدكتور المحامي محمد المشوح عله يتداركها في طبعات قادمة.
الرياض