اشتهرت مدرسة النجاة بقوة مقرراتها وبكفاية معلميها الذين كان فيهم العراقي والمصري والمغربي، وبتنوع مناهجها، وهي وإن لم تتبع التعليم النظامي فإن خريجيها كانوا يقبلون في فصول عالية.
وكان ممن تخرج فيها في عهده الأخوان عبدالله وعبدالعزيز أبناء إبراهيم البسام والمحامي عبدالرزاق الحمود والشيخ ناصر بن إبراهيم الأحمد الذي حل محله في إدارة المدرسة بعد وفاته، وأحمد بن حمد الصالح مدير غرفة التجارة في البصرة، وعبدالله محمد الشبل الذي أكمل دراسته في الكلية العسكرية في بغداد (سنة 1937م) ومحمد العسافي السابق ذكره.
كما درس فيها في عهده أستاذ الجيل صالح بن ناصر الصالح أبرز مؤسسي التعليم الحديث في عنيزة، وفي تقديري أنه درس فيها بين عامي 1343هـ و1346هـ، بقرينة أن الأستاذ صالح عاد عام 1347هـ إلى عنيزة لينشئ مدرسته الأهلية، يرافقه شقيقه عبد المحسن.
ويبيّن كتاب (الزبير وصفحات مشرقة من تاريخه العلمي والثقافي) لعبد العزيز الناصر (صدر عام 1431هـ ـ 2010م) أسماء من كان يدرس فيها حتى أواخر الستينيات الهجرية، ومنهم كثير من أبناء البسام والذكير والسليم وغيرهم.
كما يوضح كتاب الناصر أن المدرسة قد جرى تأميمها في عام 1394هـ ـ 1974م لتصبح ضمن منظومة المدارس الحكومية العراقية بعد أن استمرت أربعة وخمسين عاماً.
زيارة عنيزة والإقامة فيها
إذا كان توجه الشنقيطي نحو الزبير محض مصادفة فإن اختياره التوجُّه نحو القصيم قد جاء دون تخطيط؛ فلقد كان هارباً من الإنجليز وحل في بغداد ضيفاً في منزل صالح العسافي في حدود منتصف عام 1333هـ (1915م)، والتقى فيها عدداً من العلماء، ومن بينهم محمود شكري الألوسي، لكنه ما إن أمضى بضعة أشهر حتى خشي مرة أخرى من قبضة الإنجليز؛ فانضم إلى قافلة متجهة إلى نجد بدءاً بحائل التي حل فيها ضيفاً على تلميذه (صالح القاضي)، وعقد دروساً في بعض العلوم لمجموعة من المشايخ والطلاب، ثم ارتحل إلى عنيزة ضيفاً على زميله في الدراسة (الشيخ صالح العثمان القاضي)، وكان ممن يتبادل معه الزيارة على الدوام محمد السليمان الشبيلي أحد تجار عنيزة ووجهائها، وهنا يمكن إيجاز علاقته بهذه المدينة على النحو الآتي:
1 - أنه على ما يبدو زارها مرتين، وأقام فيها نحو عامين.
2 - أنه في خلال إقامته التقى الملك عبدالعزيز، الذي محضه النصح بالابتعاد عن السياسة وعن مناكفة الإنجليز والتفرغ للعلم والدعوة.
3 - أنه استثمر فرصة بقائه في هذه المدينة فكتب مذكراته (70 صفحة)، التي استنسخها (سنة 1336هـ) عبدالله العبدالرحمن البسام وسليمان الصالح البسام وعبدالله المحمد المنصور، ثم نقلها عنهم (عام 1375هـ 1955م) أحمد حمد الصالح مدير غرفة تجارة البصرة، وقد قام تلميذه ناصر الأحمد بإضافة أهم الأحداث التي وقعت حتى تاريخ وفاة الشنقيطي.
4 - المعتقد - بما أن الشيخ عبد الرحمن السعدي كان أحد من تتلمذ على الشيخ الشنقيطي - أنه يكون استفاد منه في خلال إقامته تلك في عنيزة.
5 - أنه التقى في عنيزة قبيل حج عام 1336هـ أحمد الجابر الصباح الذي تولى حكم الكويت في رجب من عام 1339هـ، وكانت تربطه مودة خاصة بالملك عبدالعزيز، فرافقه الشنقيطي لحج ذلك العام، وقد زارا الشريف حسين، الذي سبق للشنقيطي أن مدحه بقصيدة سلفت الإشارة إليها، ويبدو أن الشنقيطي عاد من الحج إلى عنيزة مكملاً فيها إقامته.
6 - لا يورد الكتاب في هذا السياق شيئاً عن علاقته بآل البسام في أثناء إقامته في عنيزة سوى ما ذكر من نسخ مذكراته، والغالب أنه تشرّب معرفته بالمدينة من خلال صداقته الوطيدة بوجهاء هذه الأسرة المقيمين في البصرة والزبير.
علاقته بالكويت وحكامها
مع أن الشنقيطي لم يتخذ من الكويت مقراً لإقامة طويلة لكن قصة الشنقيطي فيما يتصل بإقامتيه في الزبير وعنيزة لا تكتمل دون المرور على ذكر الكويت وحكامها.
فلقد سبقت الإشارة إلى أن الشنقيطي قد زج نفسه بمناصرة خاسرة للحكم العثماني في جنوب العراق، وبحض الأهالي على عصيان تأييد حكام الخليج وعربستان للإنجليز، بل لقد شارك فعلياً في معركتي كوت الزين في 30-12-1332هـ (17-نوفمبر 1914م) والشعيبة في 28-5-1333 (12-4-1915م) بين الإنجليز والأتراك، وهو ما جعل من وجود الشنقيطي في المنطقة، ومن تدخله في السياسة، ومن جهوده التحريضية محل تذمر من الإنجليز ومن حكام المنطقة على حد سواء.
ويمكن تلخيص علاقة الشنقيطي بالكويت وحكامها في النقاط الآتية:
1- بعد مرور نحو أربع سنوات من استقراره في الزبير، وتحديداً في عام 1331هـ (1913م)، جاءته دعوة من فرحان الفهد الخالد الخضير أحد مؤسسي الجمعية الخيرية في الكويت (التي كانت قد افتُتحت في العام نفسه)، وهي الجمعية التي دأبت على دعوة عدد من رواد الفكر الإسلامي (كالثعالبي ورشيد رضا ومصطفى المنفلوطي)، وهنا ينفي الكتاب أي صلة للشنقيطي بتأسيس تلك الجمعية أو بإنشاء المدرسة المباركية (1330هـ)، وقد بقي الشنقيطي في الكويت أشهراً عدة يعظ الناس ويرشدهم، ويبدو أنه وصديقه حافظ وهبة بدآ يتدخلان في الشأن الداخلي الكويتي محرضين الناس على عدم تقديم الدعم للشيخ خزغل حاكم عربستان (صديق الشيخ مبارك) في مواجهة الجيش العثماني، وهو ما جعل الشيخ مبارك يتحفظ على بقاء الشنقيطي في الكويت، ويتسبب في عودته إلى الزبير، مع ترك أهله حيث كانوا في الكويت.
2- وقد تكرر له الموقف نفسه مع الشيخ سالم بن مبارك الصباح في عام 1337هـ الذي تولى الحكم في عام 1335هـ بعد وفاة أخيه جابر، فظن الشنقيطي الذي قرر الخروج من عنيزة (دون أن تظهر أسباب ذلك) أن نظرة الحاكم إليه قد تغيرت بانتهاء حكم الشيخ مبارك وبعد إعلان الهدنة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان يأمل بأن يستقر في الكويت ويسهم في نهضتها العلمية، إلا أنه فوجئ بموقف أعنف من الشيخ سالم الذي ربما بلغه سفر الشيخ الشنقيطي للحج مع الشيخ أحمد الجابر من عنيزة كما سلف، فاضطر الشنقيطي للعودة إلى الزبير للاستقرار فيها.
3- لكن الشنقيطي الذي اضطر لمغادرة الكويت مرتين يجد التعويض بعد أعوام في الموقفين الشعبي والرسمي، عندما دعي لزيارة الكويت والاحتفاء به وتكريمه والاعتذار له، حيث جاءت الدعوة هذه المرة في رمضان المبارك من سنة 1343هـ (1924م) من النادي الأدبي، وكان حاكمها حينئذ هو صديقه الشيخ أحمد الجابر زميله في رحلة الحج من عنيزة عام 1336هـ، وكان النادي قد تأسس قبل عام واحد، وتبارى في مدحه شعراء الكويت (من أمثال سليمان العدساني وعبداللطيف النصف) ونشرت قصائدهم في الكتاب.
توجهاته الفكرية
لا تظهر سيرة الشيخ الشنقيطي أن له مدرسة فقهية ينفرد بها عمن سواه في عصره، بقدر ما كان مدرِّساً وواعظاً مستنيراً ووسطياً في نهجه، منصرفاً للدعوة، ولم يرد في الكتاب ما يوحي بانتمائه إلى فرقة أو طائفة من الطوائف المنتشرة في عصره في مغرب العالم العربي أو مشرقه، كما أنه - باستثناء مذكراته المخطوطة - لم يخلف أي مؤلفات تذكر.
مذهبياً كان الشيخ الشنقيطي مالكي المذهب كمعظم سكان شنقيط، والمعروف عن الإمام مالك أنه يأخذ بالكتاب والسنة، ولكنه لا يهمل الرأي، شأنه في ذلك شأن فقهاء الحجاز، إلا أنهم يردون بعض الأحاديث التي تعارض القرآن الكريم أو تعارض أحاديث أكثر اعتماداً، وقد درس مذهب الإمام مالك على أيدي علماء أعلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة، يقول مؤلف الكتاب:
«إن الشنقيطي تتلمذ على أساتذة يؤلفون مدرسة إسلامية رصينة تتناول الفكر الإسلامي من أصوله.. وقد خرج بعلم صحيح وفكر شامل في موارد الدين الإسلامي من الكتاب والسنة والإجماع والقياس معتمداً في ذلك آراء أكابر المسلمين المفكرين الذين لا ترقى التهمة إلى سلامة عقائدهم، فنراه ينزع إلى الأخذ بآراء ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والبقاعي ومحمد بن عبدالوهاب». انتهى.
غير أن الشنقيطي لم يسلم من حسد بعض المحافظين الذين وجدوا في شعبيته وفي انفتاحه انحساراً في نظرة الناس إليهم، بل لقد تعرض للإيذاء الجسدي عندما أيّد فتح مدرسة للبنات في الزبير إلى جانب مدرسة النجاة للبنين.
وكان يؤكد التمسك بتعاليم الإسلام الصحيحة ونبذ المذهبية الضيقة وترك ما شاع من البدع والجمود الفكري.
زملاؤه ومعاصروه من العلماء
إلى جانب من وردت أسماؤهم في ثنايا ما سبق من مباحث هذا العرض أورد الكتاب ثلة من أعلام عصره، الذين عرضهم أو التقى بهم، ممن كان على خط مستقيم معهم في بث الوعي الديني، وكان من أبرزهم:
- الشيخ حافظ وهبة، وهو أزهري مصري، كان من أصدقاء الشنقيطي، عاش في الكويت، وشارك في تدريس العلوم الحديثة في المدرسة المباركية (1330هـ) والمدرسة الأحمدية (1340هـ)، وقد التحق بديوان الملك عبدالعزيز، وصار من مستشاريه، ثم صار أول ممثل للمملكة في بريطانيا سنة 1930م، وتوفِّى عام 1967م.
- الشيخ عبدالعزيز الرشيد، مؤلف تاريخ الكويت، ومنشئ مجلة الكويت، عاصر الشنقيطي وزامله في فترة وجوده في الكويت، وترجم له في كتابه عن تاريخ الكويت. المعروف أن الرشيد هاجر في السنوات الأخيرة من حياته إلى جزر الملايو، في نشاط دعوي وصحفي، لتوضيح حقيقة الوضع الأمني والسياسي المستقر في بلاد الحرمين الشريفين. (توفي في عام وفاة الشنقيطي 1351هـ).
- الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، الزعيم التونسي المعروف، زار الكويت عام 1343هـ في العام الذي أقام فيه النادي الأدبي الكويتي حفل تكريم للشنقيطي، وهما يلتقيان في التوجه الفكري والدعوي. (توفي عام 1363هـ 1944م).
- الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب تفسير المنار ومحرر مجلة المنار وتلميذ الشيخ محمد عبده، وهو عالم مصري الإقامة، عراقي الأصل، شامي الولادة، زار الكويت وزامل الشنقيطي، وهو يعد أحد رجال الإصلاح الإسلامي ومرجعاً للفتيا والتوفيق بين الشريعة والعصر، أسس مدرسة الدعوة والإرشاد، له مؤلف بعنوان: الوهابيون في الحجاز، مطبعة المنار (1924م)، أشرف على طبع عدد من الكتب الدينية على نفقة الملك عبدالعزيز (توفِّي عام 1935م في حادث سيارة بمصر).
- الشيخ محمد خليفة النبهاني، وهو شخصية طائية النسب مكية الولادة والمنشأ، تنقل بين الهند والبحرين، ثم البصرة سنة 1331هـ - 1912م، اشتغل في التعليم وفتح مدرسة سميت باسمه، وألَّف: التحفة النبهانية من أجزاء عدة، توفِّي في البصرة سنة 1370هـ - 1950م.
- الشيخ محمود شكري الألوسي، تعرف عليه الشنقيطي في بغداد وقد ألَّف عنه د. محسن عبدالحميد كتاب: الألوسي مفسراً، كما ألَّف عنه محمد بهجت الأثري كتاباً عنوانه: محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية، وهو مؤرخ وعالِم دين وأدب، توفِّي عام 1343هـ- 1924م.
والخلاصة أن الكتاب عملٌ بحثيٌّ أصيلٌ فاز بتحريره باحث من العراق هو عبداللطيف الدليشي الذي يذكر عنه معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين أنه: ولد في عام 1328هـ (1910م) في قرية حمدان من قرى أبي الخصيب قرب البصرة، وتوفِّي عام 1416هـ (1995م) في بغداد، وعمل مديراً لأوقاف البصرة، وأن له عدداً من دواوين الشعر، والمجموعات القصصية، والروايات المترجمة، والمقالات المنشورة، كما نشر المعجم نماذج من شعره، ومن مؤلفاته: الألعاب الشعبية في البصرة، والأمثال الشعبية في البصرة (صدرا في بغداد 1968م).
وقد قدَّم الكتاب إضاءات متفرقة على جوانب من حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي مؤسس مدرسة النجاة الأهلية في الزبير، تلك المدرسة التي اندمجت في النظام التعليمي العراقي الرسمي، بعد أن استمرت قرابة نصف قرن منارة علم مؤثرة أفاد منها كثير من أعلام التربية والتعليم والثقافة في منطقة الخليج والجزيرة العربية.
وكانت وفاة الشيخ الشنقيطي في الزبير في أعقاب إصابته بمرض لم يمهله، صباح يوم الجمعة 14-6-1351هـ (13-10-1932م) ودُفِن في مقبرة الحسن البصري بالزبير.
* * *
* من محاضرة ألقيت ضمن مهرجان عنيزة الثالث للثقافة في مركز ابن صالح الاجتماعي ومركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الفيصل الاجتماعي
الأحد 10-3-1432هـ - 13-2-2011م