هل نحن نقاوم التغيير؟ العلوم الاجتماعية تجيب بأن المجتمعات الإنسانية عبر تاريخها الطويل تبدي حالات عدة من مقاومة التغيير، فكيف يمكن إذن أن ندرك هذه المقاومة، هل بملاحظة الظواهر الاجتماعية ومساءلة ما وراءها من أسباب؟ هل بالانتباه إلى انفعالاتنا الفردية وتحليل ما يثيرها؟ أم بتتبع الدوافع النفسية التي تحركنا؟ أي من هذا أو غيره يمكن أن يصل بنا إلى إجابة السؤال وتحقيق مغزاه؟
«هل نحن نقاوم التغيير» هو سؤال مقالة مكتوبة هنا، وإجابته مكتوبة أيضاً أو ستكتب، لكن المغزى غير الإجابة، مغزى السؤال هو أن يدرك المجتمع الشفاهي أنه يقاوم، والفرق بين الثقافتين الشفاهية والمكتوبة هو أن الأولى تعتمد على المنطوق وتكتفي بالنقل المتواتر كعملية تثاقف، بينما الثانية فتعتمد القراءة من أجل الفهم وتعتمد الكتابة من أجل التوثيق، ويعد انتقال الشعوب من الثقافة الشفاهية إلى المكتوبة هو أحد أهم نقاط التحول الحضاري تاريخياً.
لا يمكن اعتبار المعنى السلبي الذي يرتبط بمعنى التغيير ارتباطاً عابراً لا يحمل دلالات ثابتة يمكن القياس عليها، لأن هذه الدلالات موجودة وتظهر باستمرار حتى مع المصطلحات الجديدة التي تنتقل من المقالات والكتب كثقافة مكتوبة إلى أسماع الناس بثقافتهم الشفاهية، فتتحول وبشكل سريع ومباشر بينهم إلى شتيمة وانتقاص، لأنها في لحظة انتقالها من ثقافة إلى أخرى قد انقطعت بشكل شبه تام عن معناها، مثلما يحصل لمفردات كثيرة نعرفها اليوم أشهرها العلمانية والليبرالية مثلا، فهل لجهل مجتمع الثقافة الشفاهية بمعنى المصطلح هو ما يحيله إلى سباب لفظي بين الناس فقط، أم أن مجرد جدة هذه المصطلحات هو ما يجعلها مرفوضة مثلها مثل كل جديد، أليس هذا دليلاً على أن حتى الجديد في اللغة يرفضه المجتمع، فهو دلالة مقاومة أيضاً، فكيف يمكن لفت انتباه أفراد المجتمع إلى حالات المقاومة المختلفة التي يعيشونها على مستويات عدة، كيف يمكن تحفيزهم على رصد بعضها ومن ثم تقديم التفسيرات عنها، هل هنالك ظواهر اجتماعية معروفة تعكس مقاومة التغيير ويمكن أن تقنع المجتمع بثقافته الشفاهية بأنه يقاوم؟
ربما كان رفض تعليم البنات قبل القرار الحكومي بإلزامه من أفضل الأمثلة كظاهرة اجتماعية تعكس حالة المقاومة بوقتها، فكيف يمكن أن نكتب حول هذه الظواهر وبشكل يحقق المغزى «أن يدرك المجتمع ويعترف بمقاومته للتغيير»، وكيف يمكن أن نحقق هذا المغزى ومن دون أن نستهلك هذا المثال وغيره، واستهلاك الأمثلة كتعليم البنات ليس إلا خطأ في نوعية الأسئلة التي طرحت حوله وعنه أكثر من كونه خطأ في تكرار الاستشهاد به، ذلك لأن الاستفهامات التي ألقيت حول هذه الظاهرة قامت على افتراضات خاطئة، لقد افترضت أن المجتمع يعي مراحله التاريخية السابقة ويسلم بأنه قام بدور الرفض فأخذت تذكر الناس بهذا الرفض وتعقد المقارنات حوله، كما افترضت أن المجتمع يعرف المعلومة التي تقول بها العلوم السسيولوجية بأن المجتمعات تبدي حالات مقاومة باستمرار، لقد كانت معظم الأسئلة المطروحة تفترض وعي الناس بأنهم مارسوا مقاومة ضد القرار، وضد التغيير بالمعنى الآخر، وهو ما لم يكن، أي أن المجتمع بثقافته الشفاهية لا يدرك أنه رفض أو أنه قاوم تعليم بناته، لأن هذه الحالة تشكل معلومة تاريخية والتاريخ ثقافة مكتوبة لا يعرفها أفراد المجتمع، ومن يعرفها منهم فهو لا يعترف بها لأنه يعتبر نفسه ليس جزءاً منها، أي أنه يظن بأن الذين قاوموا تعليم البنات ورفضوه جيلاً آخر لا ينتمي هو إليه، ولا يعي أنه اذا لم يشهد الظاهرة بوقتها فهذا لا يعني أنه لا يشكل امتداداً لفكرها بشكل ما، فهو يرث العقل الجمعي اللا واعي الذي قاوم التعليم، هو يرث القالب الفكري الذي أنتج المقاومة لكنه لا يرث الفكرة ذاتها، لهذا تتغير الأمثلة بينما تستمر المقاومة، تحول رفض تعليم الفتاة النظامي داخل البلد في الأمس، إلى رفض ابتعاثها لخارج البلاد لاستكمال تعليمها اليوم، استمر الرفض والمقاومة كفكر إذن، لكنه تحول من فكرة إلى أخرى فقط.
هذا وغيره هو ما يعيد التركيز إلى الكيفية التي تكتب بها المقالات الاجتماعية بوصفها ثقافة مكتوبة، وإلى التركيز على بناء الأسئلة ونوعية الاستفهامات التي تطرحها، ذلك لأن السؤال المكتوب افترض افتراضاً خاطئاً وترك فراغاً في بنيته، وهو فراغ ملأه أفراد المجتمع بمعرفتهم الشفاهية، ومن ثم أجابوا عليه بنفس المعرفة، لأنهم أدركوه ضمن قالبهم الفكري، ولأنه كسؤال مكتوب لم ينجح في الدخول إلى منطقة التفكير الشفاهي متماسكاً وبالشكل الذي يحقق مغزاه، فأعيدت صياغته تبعاً لنفس التفكير الرافض للتغيير الذي لا يعي مقاومته، فتفاوت أجوبة الناس عليه بأنهم لا يتذكرون أن التعليم كان مرفوضاً ويميلون إلى عدم الاعتقاد بهذه الحقيقة، وأنه لو كان هنالك حقيقة رفض تجاه التعليم فهو بالتأكيد ليس منهم إنما من أجيال سابقة.
السؤال في المقالة الاجتماعية الذي يريد أن يخلق وعياً في مجتمعه، عليه أن يختار أولاً الطريق الذي يوصل فيه استفهاماته وينقلها من معرفة الثقافة المكتوبة إلى معرفة الثقافة الشفاهية، تماماً كما عليه لينجح أن يعرف كيف يعيد صياغة أسئلة المجتمع الشفاهية ليجيب عليها بالمعرفة المكتوبة، والانتقال بين الثقافتين ليس في الحبر الذي يدون ما ينطق، ولا بالقول الذي ينطق ما يدون، بل في القدرة على خلق الوصل بين تفكير الفرد بثقافتة الشفاهية ورأيه في مجتمعه وبين السؤال الاجتماعي في المقالة كثقافة مكتوبة.
الرياض