أسفر التعاطي الإعلاميُّ مع أحداث معرض الكتاب عن اتفاقٍ تامّ بين الإعلاميين والمعنيين بالعلم الشرعي على إدراج ما حدث تحت عنوان (الاحتساب)، وإطلاق اسم الفاعل منه على القائمين به، والداعين إليه، والمترافعين من أجله..، ثم انفردتْ كلُّ جهة منهما بوصفٍ خاصٍ لهؤلاء المحتسبين، ففي الإعلام الورقي نقرأ -من حيث الجملة- وصفاً سلبياً، من مثل: (المتشدِّدين)، و(الخفافيش)، و(أعداء العلم)، وفي خطابات بعضِ العلماء والدعاة نقرأ وصفاً إيجابياً، من مثل: (حرّاس الفضيلة)، و(حماة العقيدة)، وما إليهما.
المهمّ أنّ الطرفين قد اتفقا -بعد زمن من الاختلاف- على صيغة للتعبير عن الفعل والفاعل، وحصل بموجب هذا الاتفاق الفصلُ التامُّ لدى الجميع بين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من تلقاء نفسه وفقَ رؤيةٍ فرديةٍ، ومن يأمر وينهى مندرجاً تحت مؤسَّسة حكومية محدّدة السمات والملامح؛ بحيث يكون الأولُ محتسباً والآخرُ عضوَ هيئةٍ رسميةٍ، يملك حقَّ المتابعة والضبط.
هذا الفصل اللغوي (التجوّزي) بين المحتسب وعضو الهيئة يُحسب على أنه شكل من أشكال التطوّر في الممارسة الإعلامية؛ إذ إنه مؤشِّرٌ على خروج المحرِّر والمصوِّر والكاتب من حالة الفوضى إلى حالةٍ من النظام، ومن الترصّد والتخندق وحالات الدفاع والهجوم إلى مِهْنية إعلامية، تفرِّق بين الواقعة والإشاعة، وبين الإخبار بها والتعليق عليها..، لكنه في الآن ذاته يسلِّط الضوءَ على دوائر من الاختلال والاختلاط تحيط بالفكر الاحتسابي، وتشوب تطبيقاته الميدانية بشكلٍ أو بآخر، وأمتلئ يقيناً اليوم بأنّ ترْكَ هذه الزاوية ملتبسةً حدّ الإشكال والتعقيد، ومفتوحةً على الهواء بلا تعقيم أو تضميد، سببٌ آخر من أسباب الارتباك الذي تتعرّض له الأنشطة الثقافية في بلادنا (الأندية الأدبية، معرض الكتاب، المعارض الثقافية).
سأسلّم هنا - قناعةً لا مجاراة - بأهمّية وجود جهاز خاص للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسأقرّر - وأنا بعدُ في المبتدأ - أهميةَ إسناد هذا الجهاز إلى ممثِّلين للشريعة الإسلامية؛ لكونه ينطلق من مفردات شرعية صرفة، لكنني في المقابل لا أرى غضاضة في التعبير عن السوء الكبير الذي بدأتُ ألمسُه مؤخّراً في تعاطي بعض المحتسبين مع النشاط الثقافي، ومع شريحةٍ كبيرةٍ من المثقّفين.
لقد كان المحتسبون يعملون تحتَ مظلة الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت مكاتبُ الرئاسة آنذاك تطلق عليهم صفةَ (المتطوّعين)؛ لتميّزَهم من أعضائها (الرسميين)، وكلا الطرفين كان يندرج تحت وصف (المحتسب)، بل إن الهيئة كانت تستخدم مفردة الاحتساب للتعبير عن نفسها إلى جوار الاسم المؤسّسي الذي اختارته لها الدولة. ظلّ الأمر على هذه الحال حتى ارتفع سقفُ الحرية في صحفنا المحلية.
(بعد الحادي عشر من سبتمبر)، وتنادى عددٌ لا بأسَ به من المحرِّرين والمصوِّرين والكتّاب إلى كشف أخطاء هذا الجهاز، ومع أنّ الهيئة حاولت في البداية مواجهة هذا النقد بالتعالي عليه، أو اتهامه بالاعتراض على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنها استسلمت له بعد حين، وانتقلت إلى التصريح بأهمية (البنّاء) منه، وأنشأت جسوراً للتواصل مع الكتّاب المؤثّرين، بل ربما دعت بعضَهم إلى زيارة الرئاسة العامة، وحضور بعض أنشطتها: الدعوية والعلمية والتسويقية.
انتقال الهيئة من مواجهة الأجهزة الإعلامية إلى التصالح معها، ومن تهميشها إلى الاعتراف بشرعية بعض أطاريحها، دفعها إلى فتح ملفات لا حد لها؛ للتحقّق من صدقية هذا النقد، ولقد استبانت من خلال هذه التحقيقات وجودَ عدد من التجاوزات، تسيءُ إلى الجهاز، وتتعارض -ربما- مع آداب الاحتساب التي قرّرها العلماء المعتبرون قديماً وحديثاً، كما وجدت إلى جواره نقداً مطلياً بالسواد، لا يتأسس إلا على الكذب، ولا يفضي إلا إلى التحريض.
فيما بعد تبيّن لمسؤولي الهيئة أنّ أكثر هذه التجاوزات ليست من أعضاء الهيئة الرسميين الذين هم أقرب الناس إلى تفاصيل نظامها، وأكثرهم عرضةً للرقابة الإدارية، وإنما هي من الأعضاء المتطوِّعين؛ كونهم يعملون تحت احتساب مؤسّسي بعقلية فردية وتنفيذ ارتجالي.
اتخذت الهيئة الإجراءَ الأول لمعالجة هذا الملفّ؛ فأعلنت على الملأ براءتها الإدارية من هؤلاء المتطوِّعين، وسعت -في سبيل ذلك- إلى تمييز أعضائها الرسميين بزي رسمي، أو بطاقة مختومة، أو بأشياء أخرى، خشية أن يختلطوا بغيرهم.
ولكي تعطي الهيئةُ هذا الإجراءَ بعداً إشهارياً أخذت تصدر بياناً على خلفية كلّ احتساب يشهده نشاط ثقافي، تصرّح فيه ببراءتها الإدارية ممن قاموا به، دون أن توضِّح لنا موقفَها من الفعل نفسه، وفي معرض الرياض الأخير حصل الشيءُ نفسه، إذ نفت الهيئة علاقتها بالفاعل ولم تبدِ موقفَها من الفعل، وأعني هنا الفعلين: فعل المحتسب، والفعل الذي أزّه على الاحتساب.
إنّ تخلُّصَ الهيئةِ من المتطوِّعين خلّصها من النقد الذي أتعبها، وأعطاها بعداً مؤسَّسياً أكثرَ وضوحاً على الورق، لكنه لم يفضِ ميدانياً إلى شيء؛ إذ ظلّ الأمرُ هو هو؛ فما نزال نشهد ما بين آونة وأخرى عملاً احتسابياً مشوباً بالكثير من الأخطاء والهنات، وكلما أقدمت الصحف على نقد هذا العمل تحركت الهيئة باتجاه نفي علاقتها بالفاعل؛ تكريساً لمبدأ البراءة الإدارية التي أشرتُ إليها آنفاً.
المشكلة إذن ليست في الاحتساب من حيث هو -كما يرى بعض المثقفين-، ولا في وجود الهيئة بين أظهرنا -كما يرى آخرون-، وإنما في وجود احتسابين في الميدان، أحدهما يأمر والآخر ينهى، وفي أحسن الحالات يتحرّك أحدهما في حين يظلّ الآخر متميزاً بعباءة ضافية وصمتٍ مطبق.
هذه الزاوية بحاجة ماسة إلى بحث يشترك فيه العالم بالشريعة، والباحث في قضايا الاحتساب، والقانوني، والمثقف؛ لكي نستطيع ضبط المسألة، وتطبيق مفهوم المؤسسة في الميدان.
يجب علينا ونحن على عتبات العلاج أن نميز بين دوائر ثلاث من حيث فهم حدودها وصلاحياتها، الأولى: مرجعية الاحتساب، والثانية: الفكر الاحتسابي، والثالثة: التطبيق الاحتسابي.
في الدائرتين الأوليين يجوز التعدّد والتمدّد والاختلاف والتطارح؛ كونهما دوائر آرائية، نتبادل فيها الرأي والمشورة والتوصيف العلمي والتحليل، وأما في الدائرة الثالثة فلا يجوز التعدّد، ولا التمدّد، ولا يجوز التشريع لهما بحرية الرأي ولا بالنصحية؛ لأن السماح بالتعدّد الميداني إسقاط لأهمّ مفاهيم المأسسة في صيغتها الحديثة.
ما يحصل هو تعبير عن الخلط الكبير في فهم حدود هذه الدوائر، وهو ما أفضى بنا إلى اتفاق على مستوى المرجعية والفكر وتعددية مربكة على مستوى التطبيق، تجعلنا أمام محتسبين أحدهما صامت صمت إقرار، والآخر ينكر بصوت ندي وجبين يهطل عَرَقاً.
مما سبق أنتهي إلى الآتي:
- أن تُقام لقاءات مكثّفة لمناقشة قضية الاحتساب، والبحث عن صيغة مناسبة للمزج بين دلالات الاحتساب في المدوّنة الفقهية ومفاهيم المؤسسة الحديثة والدولة المدنية، وأقترح على وزارة الثقافة أن تدعم هذه اللقاءات بالدعوة إليها، أو احتضانها؛ لتنجو بنفسها وبقطاعاتها من الارتباك الذي أحرجها.
- أن تكون الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صادقة مع نفسها، وأن تبيّن موقفَها من الفعل قبل أن تبيّن موقفَها من الفاعل، فهي إما أن تقرّ بوجود منكرات في هذه الأنشطة الثقافية وعليها والحال هذه أن تتصدى لها وفق نظامها وصلاحياتها، وإما أن تنفي وجودَها فتتحرّف إلى إنكار الاحتساب، والتصدّي له، إن لم يكن هذا من باب النظام فليكن من باب الاحتساب على الاحتساب المنكر.
- في حال ظلّت الهيئة صامتة، وتقاعست وزارة الثقافة عن معالجة القضية بالحوار، فإنني أجد الحلَّ في صدور أمر ملكي يقضي بقصر الاحتساب على أعضاء الهيئة، ودعوة من لديه ملاحظة إلى إبلاغها للرئيس العام للهيئات، ليرفعها من ثمّ إلى الملك، وهذا القرار يشبه تماماً الأمرَ الملكي القاضي بمنع نقد العلماء في الصحافة، وفي كلّ منهما خير عظيم، في الأمر الذي صدر حماية للعلماء من الإساءة تحت مظلة النقد البنّاء وحرية الكلمة، وفي مقترحي هذا حماية للعمل الثقافي من الإساءة تحت مظلة الاحتساب.
- يجب أن يكون هذا الأمر خاصاً بالاحتساب الفردي أو الأفرادي على العمل المؤسسي، ولا يجوز أن يشمل الاحتساب الفردي على العمل الفردي، ولا الاحتساب الفردي على العمل الأفرادي الذي لا ينضوي تحت مؤسسة حكومية معتبرة، ويجب أن يُستثني منه أيضاً الاحتساب المؤسسي الذي يتأسس على المادة الخامسة من نظام المرافعات؛ لكيلا نبني مؤسّسة على أنقاض أخرى، كما يُستثني منه أيضاً الاحتساب الخاص بالفكر الاحتسابي، والذي يتخذ مساقات الكتابة الصحفية أو الخطابات الخاصة أو ما شابههما؛ استنادا إلى حرية الرأي، وتوسيع آفاق البحث العلمي.
- ما سبق يكفي من وجهة نظري حلاً أولياً لهذا الارتباك، فهو من جهة يفتح آفاقاً فكرية وثقافية خاصة وعامة للمحتسب، ومن جهة أخرى يحمي العمل المؤسسي من أن يختلَّ ويختلطَ بسبب رؤية فردية يتمُّ تنفيذها بشكل ارتجالي.
Alrafai16@hotmail.com
الرياض