الإنسان يحب أن يحكم على الأمور، مع أن حكمه على الأمور أحياناً يجيء إليه بلا منطق. وأن يكون لك حكمك على الأشياء؛ يختلف عن أن تبدأ بالتصرّف على أساس هذا الحكم. والتصرف الصحيح أن تختار حكمك على الأمور لا أن تختارك الأحكام - المسبقة أحياناً - نفسها.
والإنسان أيضاً يميل إلى أن يرى ما يألفه حوله وما هو غير متطرف وغارق بالعاديّة وربما صدَّ عنه الحقائق المجرّدة إن لم توافق ما اعتاد عليه. وربما يميل لما يحدث للأكثريّة فما حدث مع الأغلب هو صحيح وهو المنطق وحده مع أنَّ الاجتماع على شيء لا يعني بالضرورة صحته وإلا لما تنوعت الأديان بدءاً!
ما دعاني لهذا الكلام هو ما حدث معي بمقابلة عمل حينما أوقف حديثي بسؤالٍ مستفز: هل سمعت ما قلته للتو؟ وما قلته أنّي كنت اقرأ بطفولتي قراءة جادة للأدب العالمي بشكل مبسط وبإشراف من عائلتي. ولو أن السؤال كان موجهاً لي من شخص أقل تعليماً لتقبلته، لكن من شخص أكاديمي هنا يجب أن أتوقف وأتساءل : هل العلة بإسقاط تجاربنا على الآخرين؟ بأن نتوقع أن تكون حياتهم وظروفهم وحتى السن الذي بدأوا فيه بالقراءة يتوافق مع تجربتنا وإن لم تكن تجاربهم مشابهة لنا فهي شيء غير صحيح ؟ أو أن العلّة بثقافتنا المجتمعيّة الجمعية التي كونت في أذهاننا صورة مسبقة للشخص القارئ؟؛ جنسه، عمره أو نوعيّة القراءة! فالقراءة أسلوب حياة، وأسماء الكتب التي نقرؤها ليست عرضاً للعضلات الثقافية، الكتب امتداد لنا للمواقف التي لم نمر بها للأصدقاء الذين لم نعرفهم بعد والأزمنة التي لا يمكن لنا أن نعايشها والأماكن التي لم تطأها أقدامنا.
القراءة لا تعني أني أعرف أكثر منك ولا تعني أني أفضل منك. القراءة باختصار هويّة. ما ذكرني بمقولة الغذامي «أنّ المرأة تأتي بوصفها ناتجاً ثقافياً جرت برمجته واحتلاله بالمصطلح المذكر والشرط المذكر. ولذا فإن المرأة تقرأ حسب شروط الرجل».
فالعقلية الجمعيّة تسعى لتكوين صورة؛ لتكوين نمط لكل شيء أو أيِّ شيء وما شذّ عن تصورهم فهو شيء خاطئ بالتأكيد، وما لم يحدث معهم أو لم يجربوه فهو مدعاة للشك، ولا يعترفون إلا بالحقائق التي تتوافق مع ما يرونه صحيحاً وما يكون امتداداً وتأكيداً لأفكارهم المسبقة. وحتى خلفيتنا الثقافية العربية تجعل من الكثيرين يميلون للكلام والحديث وينسون أن علاقة العلم بالكلام عكسيّة، فكلما زادت المعرفة قلَّ الكلام.
ومن لم يثبت نفسه لديهم بالحديث المنمق الطويل واستشهد بمقولات الفلاسفة العظماء فهو ليسَ شيئاً يذكر.
وهذا يقودنا للتساؤل: كيف ينجو القارئ العادي من كل هذه القوالب المعلّبة والصور النمطيّة المستفزة؟ فربما يتوجب علينا منذ الآن قراءة فواتير الهاتف وتاريخ انتهاء مستحضرات التجميل والإعلانات فربما نرى انعكاس صورنا بمرآتهم المطفأة.
بريدة