يطالعنا معرض الكتاب كل عام بعدد كبير من الروايات الجديدة التي يكتبها جيل جديد من الشباب أو من الكُتّاب البارزين؛ ما دفع بعض النقاد إلى تسميته بطوفان روائي، لكن الكثير يعده ظاهرة صحية تؤدي في النهاية إلى خروج روايات فنية متمكنة من تقنياتها السردية بعد مرورها بمرحلة التجريب. ومن يتابع المشهد الأدبي والنقدي في السعودية يجد تراكمًا غزيرًا في الإنتاج الروائي خاصة في السنوات الخمس الأخيرة، التي مثلت مرحلة انتقالية للرواية السعودية، حيث احتلت روايات الشباب المقدمة في عدد الإصدارات التي بلغت في عام واحد سبعين رواية تقريبًا، وهو عدد ليس بسيطًا عندما لا يواكبه نقد يعمل على غربلة الفني الرصين من الحكي المتمرد، الباحث عن الشهرة بالتركيز على كسر التابو واختراق المحرمات بأسلوب يعتمد الإثارة، وينأى عن الفن، لكن الأدباء الجادين يرفضون هذا النوع من الكتابة، ويحمّلون النقد مسؤولية تخبط الجيل الجديد من الشباب الذين غاب عنهم النقد الأدبي الحقيقي، فيقول الروائي عواض العصيمي: «أعمالي الخمسة (مجموعتان قصصيتان، وثلاث روايات) لا يُعرف عنها النقد إلا القليل، ولذلك أسباب عدة، منها أنني بعد إصدار العمل غالباً ما أترك وصوله إلى النقاد للمصادفة، أو لما يلقاه العمل من حضور إعلامي، ومنها أن الاهتمام النقدي تنقصه الرغبة الجادة في البحث عن الأعمال الإبداعية بمبادرات من النقاد أنفسهم؛ إذ قلما تجد ناقداً يذهب إلى المكتبات، أو يسأل دور النشر عن جديد من لا يعرفه شخصياً من الكتاب، أو ممن لا تربطه به علاقة أدبية روحية. هذا البحث غير موجود، والنقاد الذين تتداول أسماءهم الصحافةُ الثقافيةُ يرى أكثرهم أن على الكاتب أن يبحث عنهم. كذلك من أسباب ضعف الاهتمام النقدي بأعمالي، وأعمال آخرين، أن التعريف الصحفي بالكتاب أصبح هو (النقد)، وكان يفترض أن تتكافأ الفرص على الأقل بين النقد الأدبي المواكب والتبشير الإعلامي بكتاب من دون آخر».
كذلك نجد الروائية الشابة آلاء الهذلول لا تخفي تعاليها على رأيٍ لناقدة وصفت روايتها (الانتحار المأجور) بأنها «دراما راكضة بلا فنية» فقالت: «الإبداع هو الجرأة في طرح مواضيع شائكة.. وأظن أنني أول من كتب عن هذا الإرهاب في قالب روائي». وهذا الرأي يوضح النظرة البسيطة لمفهوم الإبداع عند جيل الشباب، ويفسِّر اندفاع الكثير منهم للكتابة من دون وعي بشروط الكتابة في الأجناس الأدبية. ولا تخفي الروائية الشابة مي خالد ألمها من تجاهل النقاد إبداعات الشباب؛ فرغم فوز روايتها (كتاب المتعبين) بجائزة الشارقة للإبداع العربي إلا أنها لم تحظ باهتمام النقاد، فتقول في حوارٍ معها: «للأسف نقادنا يقللون من إنجاز مبدعينا الشباب ويتهكمون عليهم، هذا إن لم يتجاهلوهم». هذا الموقف من النقاد يبدو أكثر حدة عند كاتب رواية (عيال الله) الذي رمز لنفسه بشيخ الوراقين كاسم مستعار يُخفي هوّيته الحقيقية، وتطالعنا صفحة الإهداء بهذا الخطاب الموجَّه إلى النقاد: «إلى كل النقاد ذوي النظارات السميكة في العالم من الجيد لكم أن تخرجوا من هنا فورًا. لن تجدوا في هذا العمل ما يمكنكم أن تطبلوا له في صفحاتكم الثقافية البائسة التي يفترشها عيال الله المساكين، ويلفون فيها طعامهم. هذا العمل موجَّه لأولئك الذين يكدحون في الشوارع باحثين عن صرخة تُعبِّر عن همومهم وآلامهم وتفضح منتهكي حياتهم. أرجو ألا يغضبكم هذا، وأعدكم بأن أقدم لكم عملاً آخر أشعرن لغته كما تحبون، وأمرر لكم فيه ما يشبع ذائقتكم الطينية المستعارة. هل تفهمون ما أعني؟! هيا اخلعوا نظاراتكم المضحكة وامضوا من هنا. هذا خياركم الأفضل».
ونلمس هنا تمرد الكتاب على النقد الذي فقدوا الثقة فيه كما رأينا، ولكن النقاد لدينا ينفون اتهام النقد بالضعف، ويرون أن هذا الحكم يحتاج إلى مراجعة دقيقة في ظل ما يُنشر من دراسات نقدية لنقاد سعوديين، ويؤكد ذلك الناقد الأكاديمي الدكتور عبدالله المعيقل بقوله: «إن النقد الأدبي في المملكة يواكب الإبداع المحلي ويتفاعل معه، وذلك ظاهر للعيان في ملتقيات الأندية في الصحافة الثقافية وفي إصدارات أخرى. ويبدو أن من لا يرى هذه المواكبة يفكر في غياب صدور دراسات مستقلة تُعنى بإنتاج أديب واحد، وهذه مرحلة انتهت، لدينا الآن دراسات تُركِّز على الظاهرة الواحدة أو الظاهرتين عند أكثر من كاتب. ويبدو أن بعض الأدباء لا يرضيهم إلا أن يكتب عن الواحد فيهم منفرداً، ومن هنا صرنا نسمع مقولة إهمال النقاد للإبداع الجديد، وقد يعكس هذا أحياناً ما نقوله من عدم الثقة أو من توتر العلاقة وعدم التواصل بين المبدع والدارس.. والمبدع ينبغي أن يكتب وفي ذهنه إتقان صنعته وليس الاهتمام بالنقد، ومتى كان العمل جديراً بالتفاتة الباحث والناقد فإنه سيجد طريقه إليه، كما أن المسألة ليست بكثرة الأعمال؛ فأحياناً عمل واحد كاف للفت الانتباه». وهذه إشارة مهمة لا يتنبه إليها الأدباء الشباب، وهو أن كثيرًا من الأندية الأدبية السعودية خصصت بعض محاورها لدراسة الرواية، وتحديدًا ظاهرة الروائيين الجدد التي نوقشت بالفعل في أكثر من نادٍ أدبي، أهمها نادي الرياض الأدبي، ونادي جدة الأدبي الذي اختصت جماعة حوار فيه بدراسة الرواية السعودية من زوايا مختلفة في أربعة مواسم ثقافية متتابعة، نشرت أوراقها في دورية الراوي التي تُعنى بالرواية العربية عمومًا، ونادي الباحة الأدبي الذي اختار الرواية محورًا للملتقى الأدبي الذي يقيمه بين عام وآخر، وهو دليل على وجود حراك نقدي في المشهد الثقافي السعودي، لكن الأدباء الشباب المعنيين بالأمر غائبون عن مثل هذه الأنشطة، ولا ندري ما سبب عزوف الشباب عن حضورها إلا إن كان هناك صورة نمطية عن طبيعة النقد المنغلقة ومصطلحاته الصعبة التي يستخدمها النقاد في أطروحاتهم. ويجيب الناقد محمد العباس عن استمرار الكُتّاب الشباب على مستوى بسيط من القدرة الفنية في رواياتهم بأنه لا توجد لدينا «أسس وخبرات حقيقية لكتابة الرواية؛ وبالتالي عندما يكون التأسيس أو أكبر شريحة من كتاب الرواية هم الشباب فإن هذا يمثل انقطاعاً، كما أنّ ظاهرة الكتابة الشبابية ظاهرة صحية من ناحية، لكنها ستظل تدور حول المنطقة الكمية، ولن يحدث من خلال هذا التراكم بالضرورة حالة نوعية، أو هذا ما تشير إليه الظاهرة حتى الآن. قد نتسامح مع روائي يُنتج رواية للمرة الأولى ونعتبره في طور التجريب أو الإطلالة، ولكن نبدأ نحاكم هذا الروائي من خلال منجزه للرواية الثانية والثالثة، ومن الواضح أن هناك استمراراً على المواصلة بدون اختبار الإصدار الأول أو الضربة الروائية الأولى أو سماع الآراء النقدية والقرائية المتعلقة بالرواية الأولى.. وبالملاحظة، الكثير من النقاد يحاول الابتعاد عن المنطقة المعمارية أو الأسس الجمالية في الفن الروائي، بالنظر إلى أن هذه المعركة خاسرة من الأساس، فلا توجد رواية من الناحية الفنية حتى الآن مكتملة العناصر.. هذا هو سر هروب أغلب النقاد من مجادلة الأسس المعمارية والفنية إلى المضامين. وفي النهاية لا يفترض أن يستمر هذا الحال إلى الأبد؛ فبعض النقاد من المفترض أن يعطوا أحكاماً معيارية وجازمة في هذا الموضوع، بحيث لا تتحول الرواية إلى خطاب للتحاور بين الفئات، وكما لاحظنا فقد تحولت الرواية إلى أداة حوارية أكثر مما هي خطاب جمالي». هذا رأي ناقد خبير يتابع تطور الرواية السعودية باهتمام بارز، وأنا معه في بعض الجوانب التي ذهب إليها، ولكن النقد أيضاً يتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية ضعف الروايات الجديدة التي استمر كُتّابها في إغراق الساحة الأدبية بكمّ هائل يقدم خطابًا بعيدًا عن الجمالية المطلوبة في العمل الروائي، فما دام النقاد لا يركزون على الناحية الفنية ويهتمون بدراسة الظواهر كخطاب ستتحول الرواية إلى مجرد خطاب لا يحمل سمة الرواية الفنية، ولعل النقد الثقافي الذي يمارسه كثير من النقاد قد ساهم في تشجيع الشباب على الكتابة، يمثّله الناقد الكبير عبدالله الغذامي الذي قدم قراءات كثيرة لروايات سعودية كان يحلل خطابها من نافذة النقد الثقافي الذي يكشف له ردود فعل المتلقين للرواية باعتبارها واقعة اجتماعية كما يقول: «أنا لا أقرأ الأعمال الروائية ولا الإبداعية عموماً منذ انتقلت إلى النقد الثقافي، لا أقرؤها بما أنها أعمال. أنا أقرؤها بمعنى الواقعة الاجتماعية من حيث ردود فعل المجتمع عليها. بغض النظر عن العمل جيد أو رديء. عبر ردود الفعل ستقرأ عقلية المجتمع في التعامل مع منظومة السرد التي حصل فيها تغيُّر نوعي وقوي جداً». وعندما سُئل عن الرواية الشبابية وتقييمه لهذا التراكم الكمي لها قال: «التراكم والتجارب وارتكاب كم هائل من الأخطاء هو الذي سيؤدي إلى أن تعرف الناس بالضبط كيف تكتب رواية». وفي رده على اتهامات الكتاب الشباب للنقاد بإهمال أعمالهم كان له رأي صريح مفاده أنه «لا يوجد من يكتب نصاً ويعتقد أنه ليس بجيد؛ ولذا فإن الانتظار المتوقع هو أن يجد ثناءً كما توقع، وهذه مفارقة عجيبة، أن تجد كثيراً من الروائيين والروائيات يتكلمون في الصحافة على أن النقاد لا يهتمون بهم. وإذا تكلم ناقد وأبدى الرأي الموجع في النص عادوا وغضبوا. بلغةٍ أخرى هم لا يطلبون رأي النقاد، إنهم يطلبون مديحهم. وهذه مشكلة ثقافية ومعرفية.. كذلك عدم الظن بأن الرأي النقدي سيقوم بإشاعة المبدع أو المبدعة. فالإبداع سيسلك طريقه إلى الناس دون وسيط.. والنقاد مهما كتبوا لا يستطيعون أن يشيعوا اسماً. الاسم يستطيع أن يشيع وينتشر بمجموعة آليات تتعلق بحالات الاستقبال».
يتضح لنا بعد هذا العرض الموجز لتلك العلاقة المتوترة بين الإبداع الشبابي والنقد الروائي أنّ هناك منتجاً روائيًا كميًّا متواترًا، ولم يستطع النقد مواكبة هذه الغزارة في الإنتاج لأسباب يعود كثير منها إلى طبيعة النص الجديد وتخليه عن معايير الفن، وهي حالة ليست خاصة بالنقد المحلي فقط بل الساحة الثقافية العربية عمومًا تعاني تحديات جديدة في ظل المتغيرات المختلفة التي يواجهها الإبداع الأدبي المعاصر، خلقت أزمة حقيقية بين النقاد والأدباء تتعلق برؤية كل فريق لطبيعة العلاقة ومفهوم النقد لديه؛ ما رسخ لدى كثير من الكتّاب الجدد استسهال الكتابة الروائية واعتمادها على الحكي المباشر بعيدًا عن الالتزام الفني بمعايير الكتابة الأدبية؛ فظهرت روايات جديدة بركاكة أسلوبية صرفت النقاد عن دراستها.
جدة