إن النظرة التبجيلية هي نظرة كليانية تنطوي على أمشاج من الميث (السحري) مهما رطنت بالحداثة وما بعد الحداثة... وهي لذلك مثلها مثل السلفيات في التوحد حول العصمة، رغم وجود بعض السلفيات أكثر تقشفا في استخدام البهرجات الطقوسية من التقديس (الحداثي)، فالسلفيات تأنف من النقد وتتأفف من السلب، لكن لبعضها تأفف من التبجيل والتعظيم والتمجيد... لكن الصديق المترجم ينتمي في لا شعوره الثقافي إلى ميراث ثقافي -ديني يجمع ما بين التقديس والتبجيل والطقوسية، ولا نعرف إن كان ذلك يفسر لنا كل هذا الورع الطقسي نحو الظاهرة الأركونية السابقة لعصرها على حد تعبير مريده الفكري الحداثي...
فأركون وفقاً لمترجمه ومريده، هو «الذي سينقذنا من السجون الطائفية المقدسة»، وذلك بتفكيكها علمياً وتاريخياً وابستمولوجياً كما خلصنا في حديثنا السابق.. لكن بما أنه (أركون) سابق لعصره على حد التعبير التبجيلي!! فإن أحداً لا يهتم بالاستثناء الأركوني السباق لزمنه.. هذا بالإضافة إلى صعوبة فكره – الذي علينا لكي نتحرر من طائفيتنا – أن نفهم أركون وأن نفهم كل نظريات الفكر الحديث... في مجال علم الألسنيات والسيميائيات وعلم الأديان المقارن وعلم النفس التاريخي وعلم الأنثربولوجيا.. وعشرات العلوم والاختصاصات الأخرى..!!» إذن فالتحرر من الطائفية هو حكر ليس على النخب الثقافية فحسب، بل هو تخصص علمي رفيع لا يتاح إلا للعلماء الذين سبقوا عصرهم.... وباعتبار أن ذلك غير متاح إلا للراحل (أركون) والمترجم (صالح)، فإنه والأمر كذلك، ليس بيننا من تحرر من طائفيته ومذهبيته سوى المتخصص بترجمة فكر أركون وتقريظه (د.هاشم) الذي لا نظن أن مفكراً دنيوياً قد حظي بكل هذا الثناء الذي يتوشح بغلالة من التبريك والتقديس كما حظي به الراحل (أركون) من قبل مترجمه، مما لا يمكن فهمه بدون الإحالة إلى المخزون الواعي أو اللاواعي للموروث الثقافي البيئي المفعم بطقوس التبريك والإجلال الطقسي الذي تحظى به شخصية (الإمام الحسين)...
لكن المترجم المريد يفسح المجال لنا في التماس الخيارات للتحرر من طائفيتنا عير قراءتنا لترجماته للراحل.. إذ قد وضع لنا خياراً آخر، وهو أن ننتظر ترجمة كتاب جوزيف فان ايس الألماني صاحب المنهجية الفيلولوجية – التي يفترض أن أركون تجاوزها ابستمولوجيا- المؤلف من ستة أجزاء «عن اللاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة ..تاريخ الفكر الديني في بدايات الإسلام.. والذي ترجمه الفرس والأتراك، بينما العرب آخر من يعلم.. ومن ثم أين لهم للتحرر من الطائفية ما دام هذه الكتاب لم يترجم..» وما دام أركون لم يجئ وقت فهمه بسبب سبقه لعصره... فما العمل لنتحرر من طائفيتنا؟
إن الكاتب (المقرّظ المؤمثل) الذي بلغ في تعظيم النموذج الأبوي حداً لاهوتياً هو وجه آخر للاهوت الأرثوذكسي، رغم أن المشروع الأركوني بالأصل وكما يطرح نفسه دائماً، هو مشروع كفاح ضد (الأرثوذكسية)، نقول: إن الكاتب لا يدعنا مذهولين عن أنفسنا أمام ظاهرة الاستثناء التاريخي للظاهرة الأركونية، بل هو يطمئننا –طمأن الله باله- بأن» أركون ليس معجزة ولا أسطورة... وذلك لكي ينقذ عقلنا من السقوط في التياثات السحر.. فيسارع ليقول لنا: إنه باحث كبير مقتدر وكفى..»... لكن المفارقة المرهقة تتبدى في هذا الجمع المعقد بين أطراف هذه المعادلة: إن أركون ليس معجزة... لكنه نادر واستثنائي في الآن ذاته... وبوصفه سابقاً لزمنه فإن الناس لا تهتم به، وذلك لأنه سابق لزمنهم... وعلى هذا فالأزمة قائمة في الزمن العربي إن لم تكن في صيغة الحنين الماضوي، فإنها مع هذه القراءة التبجيلية ستتحول إلى تشوف خلاصي ينتظر الإنقاذ في إمكانية بلوغ النموذج الأركوني...
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7464» ثم أرسلها إلى الكود 82244
باريس