ثانيا: إنصافه للمنطق فهو لا ينقضه جملة كما هو شائع وإنما ينقده ويبرهن على مكامن بواره, وثمة بون شاسع بين النقض والنقد وفي هذا الصدد يقول: «كنت أحسب أن قضاياه (يقصد المنطق) صادقة لمارأيت من صدق كثير منها (تأمل في تلك الجملة) ثم تبيّن لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه» (الردعلى المنطقيين 1-53). وتأمل في كلامه عن القياس الشمولي حيث يقول: «والتقدير هو القياس الشمولي وهو الانتقال من المبادئ إلى المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي, ولعمري إنه لصواب إذا صححت مقدماته» (الفتاوى 12-244)، كما يقول: «إن صورة القياس إذا كانت مواده يقينية فلا ريب أنه يفيد اليقين» (الرد على المنطقيين 2-47)، ويقول أيضاً: «لا نزاع في أن المقدمتين إذا كانتا معلومتين وألّفتا على الوجه المعقول أنه يفيد العلم بالنتيجة» (نقض المنطق ص200).
ويقرر أن المنطق بوصفه أحد العلوم المعيارية هو أحد الآليات التي تشحذ الذهن وتمنح لوناً من الرياضة العقلية ولذلك يقول: «فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدربه به ويقويه على العلم فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال وهذا مقصد حسن وكذلك فإن المنطق يقوم على رسم طريق للعلم يسير عليه الإنسان وهو طريق النفس العالمة المدركة للأشياء المحسوسة وبها تتحصل المعرفة» (الرد على المنطقيين 255).
ثالثا: من السائد المألوف الذي جرت به العادة بين الأقران أوالخصوم أن كل طرف لا يمكن أن يشير إلى ما يحتوي عليه الطرف الآخر من حق فضلاً عن أن يذكر اسمه أو يحيل إليه أو يبدي قدراً من الاحتفاء به وهذا أمر معهود فمناكفة الخصوم كثيراً ما تحدو إلى الاشتغال التزويري الذي يبخس الناس حقوقهم بينما الوضع مختلف جداً مع ابن تيمية إذ قد تجاوز مركب النقص حيث كان لا يبدي أي غضاضة في ذكر أسماء مناوئيه ويحيل عليهم بل يلفت الانتباه إلى الصواب الذي في حوزتهم ويشيد به (انظر الدرء 1-345 ,343 ,334,336). بل إنه أحسن إلى خصومه ومنحهم مكانة إضافية. انظر مثلاً (الفتاوى 3-270) وهذه الآلية ليست استثنائية في تنظيره بل هي إستراتيجية منهجية تطبع الطرح التيمي العام الذي يقوم على أن «الحق يقبل من كل من تكلم به» (الفتاوى 5-101).
ولذا فهو لا يفتأ يذكر قول الخصم الذي تقاطع مع الحقيقة في وجه في معرض تفنيده لفكرة خصم آخر تجافى عن الحقيقة من هذا الوجه.
انظر مثلاً (الدرء10-84,317) فهو يرد على الخصوم بما يقوله بعضهم ضد بعض. «ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكرعلى منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب» (الدرء 4-206).
ويقرر أيضا أن كل «قول أو قائل كان إلى الحق أقرب فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد» الدرء 238. وهو كثيراً ما يحتج على الخصم بما أقرّ به على ما نفاه كما في قوله للأشاعرة «القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر» (انظرالدرء 6-130 ,128).
وكثيراً ما يجيب الشخص الواحد في مسألة بما أجاب به هو غيره في مسألة أخرى واحترازاً من الإطالة أحيلك إلى الصفحات التالية من الجزء الرابع في (درء التعارض 283 ,282, 279, 278 ,219,90)
ومن أصوله في الرد تجلية تناقض الخصم وتعارض أقواله انظر (الدرء 10-192 ,190,146,109,105 , 63 ,58 ,47,46 ,45 ,44).
رابعاً: إنصافه للغزالي حيث أثنى على بعض طرحه في سِفره (تهافت الفلاسفة) ذلك الطرح المتصل بدحض ما احتجوا به من الألفاظ المجملة المبهمة كالتركيب وزعمهم أن إثبات المعاني الزائدة على مطلق الوجود يسمى تركيباً حيث أكد ابن تيمية أن أبا حامد «تكلم في ذلك بكلام حسن» (الدرء 3-389).
ويقول أيضاً (كلام أبي حامد وأمثاله في مناظرتهم خير من كلامهم وأقوم» (الدرء3-418) ويؤكد في سياق متصل أنه إذا كان في كلام الغزالي كثير مما يوافق الباطل فإن في «كثيرمن كلامه رد الكثير من الباطل» (الدرء 6-57).
وأيضاً يؤكد هذا الانطباع في سياق حديثه عن موقف ابن رشد من أبي حامد حيث أكد أن «ابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين» انظر (الدرء 6-239).
كما أنه يؤكد على أن الغزالي مع ما عليه من مآخذ إلا أن له إلمام واسع بالفقه والأصول والتصوف والكلام وأنه على جانب كبير من الزهد والعبادة وحسن القصد. (الفتاوى 4-63). ويقرر كذلك أن الغزالي أصوب رأياً من ابن رشد في معظم مسائل التهافت وأن «كلامه في الأحياء غالبه جيد» (فتاوى 6-55).
خامساً: إنصافه لابن رشد. فهو يقرر أن نقل ابن رشد «لأقوال الفلاسفة أصح من نقل ابن سينا» (الدرء 6-245).
ويلح على أنه «أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا» (الدرء 9-434)
سادساً: موقفه من ابن سينا, ومع أن ابن سينا من غلاة الرافضة الذين اقترفوا جريرة الإلحاد حتى وصفه ابن القيم رحمه الله بأنه إمام الملحدين إلا أن ذلك لم يكن ليمنع ابن تيمية من إنصافه. حيث أكد على أن «ليس كل مايقوله ابن سينا باطلاً»، ويقول أيضا: «والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وأمثاله عن المعتزلة منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل فالصحيح كقولهم: إن تخصيص شيء دون شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص والباطل نفي الصفات».
أيضا عندما تطرق لقضية علم الله في المعتقد الفلسفي ذكر أن «ابن سينا خالفهم في هذا وهو من محاسنه وفضائله التى علم فيها ببعض الحق» (درء التعارض:10-140) وهو يؤكد أيضاً أن «ابن سينا وابن رشد والبركات ونحوهم من الفلاسفة أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من النفاة الملحدين الذين قالوا في علم الله مثل هذا الافتراء» (10-82).
سابعاً: إنصافه لابن عقيل صاحب كتاب الفنون هذا السفر الضخم ذي الثمانمائة مجلد الذي قال عنه الذهبي في (الإعلام 5-129) (لم يصنف في الدنيا أكبرمنه) يقول عنه ابن تيمية: «ولابن عقيل أنواع من الكلام فإنه كان من أذكياء العالم... ويوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور» (الدرء 8-60).
ويذكر ابن تيمية أن الغالب على ابن عقيل أنه إذا خرج عن السنة أنه «يميل إلى التجهم والاعتزال في أول أمره بخلاف آخر ما كان عليه فقد خرج إلى السنة المحضة» (نقض المنطق135 ).
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة