ينحدر «الكمال» من إحدى أسر الطائف المتحضرة المعروفة والقديمة فيها، وهو من مواليد الطائف عام 1332هـ - 1915م كما أكد لي، اشتغل بالكتب والمكتبات زمناً طويلاً ولا تزال «مكتبة المعارف» التي يمتلكها من أكبر وأقدم مكتبات الطائف التجارية، ولديه في بيته مكتبة أخرى لا تقل عنها أهمية، كما اشتغل بالتعليم وبعقد الأنكحة، أما من حيث التأليف فلديه كتاب طال انتظارنا لصدوره وهو عن تاريخ الطائف وقبائلها.. وقد نشر صفحات منه في مجلة العب التي يصدرها علامة الجزيرة حمد الجاسر *.
ويكفي «الكمال» فخراً أنه استطاع أن يجمع كماً كبراً من الشعر الشعبي في عدة أجزاء وسماه «الأزهار النادية من أشعار البادية» وأن ينشره تباعاً، كما نشر مجموعة كبيرة من الكتب القديمة صورها أو نشرها على طريقته في النشر، وهو التحقيق السريع لغرض تجاري، ولكنه بالتالي لم يفد نفسه فقد وإنما أفاد التراث والقارئ، كما نشر مجموعة الرسائل الكمالية (في عدة كتب) وحقق تحقيقاً جيداً كتاب «تحفة اللطائف في فضل الحبر ابن عباس ووج الطائف» للعلامة جارالله بن فهد الهاشمي المتوفى سنة 954هـ وقد طبعه النادي الأدبي بالطائف بمراجعة منه ومن الكاتب: محمد المنصور الشقحاء.
والشيخ الكمال عاصر أجيالاً.. وشهد دخول الملك عبدالعزيز للطائف عام 1343هـ وهو فتى في نحو الثانية عشرة من عمره -كما قال لي- كما عرف شخصيات كثيرة في الداخل والخارج ولا سيما في مصر، وقد رجوته أن يكتب أو يسجل ذكرياته على أشرطة لتكون للأجيال الحاضرة والقادمة تاريخاً حياً.
وقد تعرفت على الأستاذ محمد في مكتبه في شارع الكمال قبل أربعين عاماً وكنت في ذلك الوقت أدرس في معهد دار التوحيد بالطائف وأحب القراءة واشتري الكتب وأقرض الشعر، وكان في حوالي الخمسين من عمره قد بدأ الشيب يغزو شعر رأسه ولحيته الصغيرة ولكنه كان نشيطاً وتغلب عليه روح التاجر الماهر، وكان ذلك في عام 1378هـ - 1958م.
وحسب الفارق في العمر فلم تتوثق صلتي به إلا فيما بعد، وكنت اشتري منه الكتب نقداً أو بالمبادلة، كأن أعطيه عشرة كتب من التي قرأتها.. فيقدرها بنص ثمنها تقريباً وآخذ منه مقابلها كتباً أخرى، وكان حريصاً على أن يكون المستفيد الأول؟!.
وبعد أن تخرجت في كلية التربية وأصبحت مدرساً بالطائف توثقت صلتي به أكثر وقد دعاني في بيته الواقع في وسط الطائف القديمة فوق المكتبة مرة أو مرتين ولمست منه احتراماً متصاعداً.. إلا أن أسعار كتبه كانت دائماً مرتفعة بالنسبة لنظيرها في مكتبات أخرى وعندما زارني مرة صحفي ومصور من مجلة «قافلة الزيت» بالظهران لعمل تحقيق صحفي مصور عن الطائف في التسعينات الهجرية حرصت على أخذهم لمقابلة الأستاذ محمد سعي وصورنا في مكتبه بين الكتب وأجروا معه مقابلة عن تاريخ الطائف نشرت مختصرة مع التحقيق.
وعند إنشاء النادي الأدبي كان الشيخ محمد أحد الأعضاء المؤسسين وكان معنا في الاجتماع الأول بمطابع الزايدي يوم 3-5-1395هـ الذي دعوت إليه أنا وابن عمي الشاعر إبراهيم، وأذكر أن عددنا كان أحد عشر من كتّاب وأدباء الطائف، وعندما انتخبت رئيساً بالتزكية قلت إن أستاذنا محمد سعيد كمال أحقنا بالرئاسة ولكنه كان أكرم مني في هذا الموقف فأصر بحكم أنني الأنشط والأشب من الأعضاء على قبول الرئاسة، وهذا موقف منه أذكره فأشكره.
وكان أستاذنا -كما أحب أن أدعوه تقديراً- معنا في مجلس الإدارة الأول وما بعده، وعندما تركت النادي في أواسط عام 1396هـ - 1976م بعد أن ترسخ كيانه وقوى على المسيرة.. كان الأستاذ الكمال كريماً معنى مرة أخرى فقد ألقى قصيدة شعر وداعية مؤثرة في الحفل الخطابي الذي أقامه النادي لتوديعي قبل سفري لأمريكا في مقر النادي المستأجر بحي قروي بالطائف.
وعند الانتخابات الثانية ضغط عليّ وهو وبعض الأعضاء للترشح للرئاسة فاعتذرت شاكراً.. لأن النادي مؤسسة، وقد ساهمت بنصيب كبير في التأسيس فيجب حسب وجهة نظري أن لا يرتبط النادي بشخص ما حتى ولو كان المؤسس.. لأن الأشخاص يذهبون والمؤسسات تبقى.. وهكذا ذهبت بشرف.. وبقي النادي!؟
وكصديق قديم وكبير كنت أتواصل معه ومع بعض أبنائه حتى بعد سكني في جدة لعدة سنوات. ولما رجعت للطائف عام 1408هـ أصبح التواصل أكثر وكنا نتزاور فإذا جئته في بيته لم أخرج إلا بكتاب أو اثنين يصرّ على أن تكون هدية! وبعضها كتب نادرة. وكنت كلما رأيته أقبل رأسه إجلالاً واحتراماً.. فكان يقول لي مازحاً بلهجته الطائفية عندما أميّل رأسه قليلاً لتقبيله: لا توطي رأسي!.
ولو أخلص هذا الرجل - المعلم وللبحث والكتاب ولا سيما في التاريخ والتراث لكسبت المكتبة السعودية الكثير، ولكنه أشغل نفسه ببيع الكتب مع بعض الحرص على جمع المال مع أنه على جانب لا بأس به من الثراء، هكذا فإن المثل الطائفي القائل: الزين ما يكمل - ينطبق عليه والكمال لمن بيده الكمال!
أحببت هذا الرجل الذي اعتبره أحد أعلام الثقافة في مدينة الطائف في العصر الحديث.. ولم يغضب مني إلا مرة واحدة وكنا في أحد اجتماعات مجلس إدارة النادي، فقد أعلنت رفضي لمكافأة الجلسة ومقدارها على ما أذكر خمسمائة ريال فالتفت إليّ محتداً وقال: لازم تأخذها وإلا يعني أنت أحسن منا؟! وابتسمت له وسكت!
وبعد تقدم سنه ومرضه كنت أزوره كثيراً في منزله بحي قروى حيث نسكن وأدخل إلى بيته بل إلى غرفته الخاصة بعد أن أقعدته الشيخوخة والمرض وجلس معه وأسرّي عنه فقد كان كل أبنائه يعيشون خارج الطائف، وعندما أسأله عن ماذا يريد أو يشتهي؟! يقول لي بخجل» (غُريّبة) وهي نوع من الحلويات التي يحبها فأحضر له منها كلما حضرت لزيارته!. وقد توفي (يرحمه الله) في الطائف شتاء عام 1417هـ - 1996م وكنت في الخارج فلما عدت بعد أيام كتبت عنه مقالة رثاء معبرة نشرتها في الملحق الأدبي لجريدة المدينة بجدة.
* * *
(*) صدر هذا الكتاب بعد وفاته بتحقيق د. صالح كمال.
جدة