(كلنا كالقمر له جانب معتم)
.. مثل صيني
مثلما للقمر الطبيعي جانب معتم فإن القمر الاصطناعي له جانب معتم هو الآخر.
إن أول قمر إصطناعي أطلق للفضاء هو قمر «سبوتنيك 2» أطلقه الاتحاد السوفييتي عام 1957 وبعده اطلقت الولايات المتحدة الأمريكية قمرها الاصطناعي عام 1958 وهو قمر «أكسبلور1» ثم بعده تم إطلاق عشرات الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء الخارجي.
وعبر الأقمار الاصطناعية يتم البث الفضائي للقنوات التلفزيونية وتتم المكالمات عبر الهواتف المحمولة ويتم إلتقاط شبكة المعلومات من أنحاء العالم. ومن خلال هذه الأقمار الاصطناعية تحول العالم إلى ما يطلق عليه «القرية» فأصبح بإمكان كل فرد معرفة المعلومات والأخبار وما يدور في هذا العالم حتى من خلال هاتف صغير.
كم من المعلومات والأخبار والتلخيص لعامل الزمن قد وفره القمر الاصطناعي. وكم من التغيير قد أحدثه هذا القمر في حياة الإنسان، ولكن الإنسان نفسه فقد السيطرة على الأقمار الاصطناعية إذ ترك لها حرية السباحة في الفضاء ولم تعد ثمة ممنوعات ولا محرمات. وهذا شأن لا علاقة له بحرية التعبير. والسؤال الملح ونحن نشهد أحداثاً درامية في المنطقة «هل من الصحيح أن نضع لوحة مفاتيح الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في يد طفل يتسلى بها؟» هذا ما يحصل اليوم في لوحة مفاتيح الحواسيب التي قادت وتقود إلى ما صارت الفضائيات لأسباب متعددة تطلق عليه تعبير «الثورات» على حركات سياسية واجتماعية اتخذت من الشوارع برلمانات لا تحكمها قوانين ولا مؤسسات وتحولت إلى ما يشبه التسلية التي دفع الكثيرون من الأبرياء حياتهم ثمناً لها وسالت في سواقي المياه دماء البشر بديلا عن الماء.
ولو ألقينا نظرة على القنوات الفضائية التي تصور الأحداث الدائرة في المنطقة وما تلعبه هذه القنوات من تأجيج للكراهية والخلاف بين أبناء المنطقة الواحدة والبلد الواحد والعائلة الواحدة لوجدنا بأن كل هذه الفضائيات في منطقة ما يطلق عليه الشرق الأوسط الجديد تبث من الجانب المعتم للقمر الاصطناعي، فيما قنوات الغرب لا تأخذ من الأحداث سوى «الزبدة» في خبر قصير وتترك الوقت المتبقي لحياة الناس وإبداعهم واسترخائهم لأنها تبث من الجانب المضيء للقمر الاصطناعي تاركة لنا الجانب المعتم منه.
وفيما كنت أشاهد بعض ما يجري في الشارع العربي شعرت بما يشبه الغثيان فسحبت فيش الكهرباء المرتبط بالصحن الفضائي وبدأت مشاهدة القنوات عبر الكابل الأرضي فشاهدت برنامجاً أمريكياً بعنوان «Glee» لحكايات معاصرة تتخللها مشاهد من أفلام سينمائية كلاسيكية منفذة بطريقة معاصرة وكانت أغنية البرنامج الذي شاهدته تلك الليلة هو «أغنية تحت المطر» ل «جين كيلي» منفذة بطريقة معاصرة وبأداء وإخراج يرتقي بالإنسان إلى مديات تتناغم ورغباته المشروعة، وشعرت بمتعة ذهنية وحسية لا مثيل لها. حيث تحولت أغنية «تحت المطر» الفردية إلى مشهد استعراضي مدهش تحت المطر.
ما يحدث اليوم وما نراه من الجانب المعتم للقمر الاصطناعي كنا نراه بدون أقمار اصطناعية قبل خمسين عاماً ونشاهده اليوم وسنشاهده بعد خمسين عاماً أخرى من خلال الأقمار الاصطناعية. المسرحية تحمل ذات الفكرة وذات البناء وذات الأحداث، ذات المؤلف وذات المخرج، ولم يتغير سوى الممثلين. وسوف يذهبون ويأتي آخرون غيرهم وسيظل الجمهور مأخوذاً بالمشاهد الدرامية وهو يردد ذات الإهزوجة المقيتة «بالروح بالدم». وما يحزنني أن المثقف العربي الذي يمثل الوعي والقراءة المدركة والرؤية البعيدة «ركض» نحو الشارع وصار عليه أن يظهر هو الآخر على شاشات التلفزة متحدثاً عن الحرية والانعتاق مع الجماهير التي تصرخ وتموت وتموت وتصرخ دون أن يدرك المثقف العربي بأن حرية التعبير ليست منفصلة عن الوعي. وعي الإبداع ووعي التلقي. وإن الحرية الحقيقية هي التي أنتجت ذلك المشهد الساحر ليلاً «أغنية تحت المطر» حيث تحولت الأمطار إلى مشهد استعراضي بالمظلات والغناء والقيمة الموسيقية والجمالية التي ترتقي بالإنسان إلى موقف لا يحتاج فيه إلى فوضى الشارع لكنه يحتاج إلى كلمة «لا» يكتبها في ورقة ويرميها في صندوق الاقتراع عندما لا يحب الحاكم وينتج بدلا من الإهزوجة المقيتة «بالروح بالدم»، ينتج «أغنية تحت المطر» ويبثها من الجانب المضيء للقمر الاصطناعي!
sununu@ziggo.nl
- هولندا