اتجه للأرض، وركز على الإنسان، وعُني بتأريخ سيرة أهله؛ فكانت «ينبع» و»جهينة» رقمين ثابتين في معادلة الكتابة والتأليف لديه، مثلما كانت حكاياتُ كل يوم، ونتاج عمق الأرض في مداراته المسموعة؛ وفي جيل الوسط والجيل الأقدم من لا ينسى (مجلس أبو حمدان) و(الأرض الطيبة).
كذا ارتكزت اهتماماتُه بحكم مسؤوليته عن إدارة البرامج الشعبية في إذاعة الرياض زمنًا خصبًا؛ فأضاء وأضاف، ووصل ساعات عمله بساعات راحته، وروى الدكتور زهير الأيوبي أنه قد يضطر للمبيت في الإذاعة؛ فعبءُ العمل مسؤولًا ومعدًا ومقدمًا يضطره للهاثٍ يعلمه العارفون بتلاحق العمل الإعلامي وملاحقته حتى لا يجد المرء متسعًا لغير الركض في كل الاتجاهات وعبر جميع الزوايا، والمشكلة في إحباطٍ يتلوه إحباط حين لا تجد سامعًا يعي أو نافذًا يقدر.
ربما كان الإذاعيون أكثر المبدعين معاناةً من التجاهل المادي والمعنوي، وربما بدا للمتفرجين غيرُ ذلك؛ فهم مطالبون بأناقة ملبس وفخامة مركب وكرم ضيافة دون أن يعلم الناءون عن مداراتهم أن الواحد منهم يقضي أعوامه ولم يصل المرتبة التي يتخطاه إليها أبناؤه، وقد تقاعد «ماجد (محمد العبد الله) الشبل وغالب كامل وعبد الله الزيد ومحمد الرشيد وياسر الروقي وغيرهم على المرتبة العاشرة، وليس لهم من مكافآت على ما يقرءونه سوى ما يعدونه، وحين يتقاعدون يقعدون دون ذكرٍ مكتفين بالذكرى.
كان لهم أن يجدوا «كادرا وظيفيا» يميزهم؛ فالأمة لا تلد المبدعين كما تخرج الموظفين، والشهادة ليست ذات بال في حقلهم، والعمل يشغلهم عما حولهم، وربما ألهتهم النجومية فظنوا أنهم ذوو شأن ثم التفتوا فإذا هو السراب يحسبه الظمآن ماء.
كنا في الطريق للعمل صباحًا نستمع - قبل نشرة السابعة - للمجموعة في نشيدها العذب: «احرث وازرع أرض بلادك.. تنتج خير لك ولأولادك» – أو ما يشبه هذا، وكان صديقنا الإذاعي المتواري «فايز المنصور» مقدم «الأرض الطيبة» ينتشي بمن يتواصل معه معقبًا وممتدحا، وبقي البرنامج ذا نكهةٍ مختلفة.
كذا الإذاعيون حين كان المذيع لا يخرج على الهواء إلا بعد أشهر من التدريب والتجارب والمعاناة والمنافسة والتمكن اللغوي والخلفية الثقافية؛ ما يجعل المقارنة اليوم غير واردة؛ فقد سام العمل الإبداعي المسموع والمرئي - في كثير من قنواته - من لا يملك صوتًا ولا لغة ولا ثقافة ولا إيمانًا بالعمل بوصفه أداة لتخليق الوعي الجمعي.
الأستاذ عبد الكريم محمود الخطيب (ينبع البحر - 1933م -) معد الأرض والمجلس ومسؤول البرامج الشعبية والمؤرخ «الينبعي الجهني» البارز هو الأسعد بالنجاح الذي حققته برامجه وإدارته ومؤلفاته وأعماله الإعلامية الأخرى خارج الإذاعة، وقد حصل برنامجه «الأرض الطيبة» عام 1974 م على جائزة أحسن برنامج إذاعي زراعي إعدادا وإخراجا من منظمة الفاو، وكرمته وزارة الإعلام عام 1982 م بجائزة أفضل إخراج، وكرمته رعاية الشباب وبعض الأندية الأدبية والهيئة الملكية للجبيل وينبع ومعرض الكتاب.
ومثلما اهتم بالأرض الطيبة فقد عني بالبحر السخي فرصد حكاياته ومعطياته، واهتم ببني أبيه الأدنين في مدينته حيث تلقى دراسته الأولية فيها، وتقول سيرته - وفق منتديات ينبع سبورت -: إنه درس الصحافة في القاهرة، والتحق بالإذاعة عام 1378هـ؛ حيث عمل عمل مذيعاً بإذاعة جدة، ثم عُين مديراً لإدارة الأحاديث والثقافة العامة بالمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، وفي عام 1387هـ نُقل من إذاعة جدة لإذاعة الرياض فعمل مديراً لإدارة البرامج الشعبية، ثم تنقل بين المطبوعات ووكالة الأنباء حتى تقاعد، ومن مؤلفاته: تاريخ ينبع، وتاريخ جهينة، وشعراء ينبع وجهينة، وشعراء ينبع وبنو ضمرة، ومن زوايا التاريخ، وقصص وصور، وشاعر من ينبع، ووجه في الزحام، وحارة البحارة، وبعض الروايات الشعبية والسلاسل التاريخية.
الأرض نبعٌ لا ينضب.
Ibrturkia@gmail.com