حينما كنت أطلّ من على جسر يحفّ برج مدينة كوالالمبور بماليزيا قبل سنوات.. لاحظت شجرة ضخمة على شفا هذا البرج شامخة غير مبالية بهذا المبنى الضخم الملاصق لها.. حتى كأنها لا تعبأ به، ولاحظت أن هذه الشجرة الكبيرة قد بُنيَ حولها هذا الجسر المرتبط ببرج كوالالمبور حمايةً لهذه الشجرة حتى تم تغيير شكل بعض المباني المحتفة بالبرج لتحاشي تشويه هذه الشجرة أو قطعها واجتثاثها. اقتربتُ متأملاً، وطفقتُ أقرأ الورقة التعريفية المكتوبة على جانب الجسر والتي تتحدث عن قصة هذه الشجرة. الورقة تتحدث أن مهندسي برج كوالالمبور (Menara KL) اكتشفوا بعد أن بدأوا بالمشروع أن بناء البرج والأبراج المحيطة يستلزم قطع العديد من الأشجار بما فيها هذه الشجرة الضخمة.. ولكنهم حين لاحظوا عراقة هذه الشجرة وقيمتها تاريخياً قرروا تغيير شكل قاعدة البرج هندسياً للحفاظ على هذه الشجرة التي يبلغ عمرها مئات السنين.
تعجبتُ من الاهتمام بهذه الشجرة التي أصبحوا يعدونها جزءاً من التاريخ والحضارة، لأنها شهدت أجيالاً كثيرة.. وعقوداً مختلفة.. وأصبحت شاهدة على الماضي والعصر، لذلك حافظوا عليها احتراماً للتاريخ وللأرض والناس. تخيّل بعد كل هذا أن يكون المبنى تاريخياً عريقاً أو شهد أحداثاً تاريخية مجيدة أو علامةً يحفظها الأجيال والناس للتراث والتاريخ والحضارة.. بيوتاً ذات قيمة تاريخية، أو منازلَ حفتها الوجوه الطيبة ومرّ من عندها الصحابة الكرام..أو أقام فيها خير من وطيء الثرى عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
قيمة هذه المعالم والمرابع هي في تلك الذاكرة الإنسانية المجيدة التي شهدتها، وفي ناسها وأهلها.. أفلا يحق بعد كل هذه القرون الممتدة التي شهدتها فحفظتها أن تبقى حيّة محفوظة للناس وإرثاً للأجيال؟ أفلا تكون تلك المآثر والمعالم.. شبيهة بالمعنى الذي بقي فيه مقام إبراهيم وبقيت فيه رجله الشريفة عليه السلام وآله إلى يومنا هذا في مكان من أقدس الأماكن وأشرفها وأجلها على وجه هذه البسيطة من غير أن يخاف أحدٌ من الإشراك فيه أو يهدمه أو يلغيه سداً لذريعة الشرك أو حمايةً لجناب التوحيد، فالتوحيد باقٍ ببقاء هذه المعاني والقيم التي بثها هؤلاء الأنبياء وجاء لأجلها المبشرون.
وإذا كان الشعراء والأدباء يتغنون في مرابع الوهم، ومراتع الصبا.. ومنازل المحبين التي شهدت أخبار الهوى والجوى، فمآثر النبوة وبقايا العهد النبوي الشريف، وتراثه الممتد العظيم أولى بالغناء والحب.. تلك المعالم والمآثر التي تحدث عنها سيد من قال الحرف فتغنى بأثر المصطفى عليه السلام.. وهو حسان بن ثابت (رضي الله عنه) حين تحدث عن تلك المعاهد الشريفة التي بقيت تذكّر بمنازل خير البرية عليه السلام، فقال في قصيدته الشهيرة:
بطيبة رسم للرسول ومعهدُ
منيرٌ، وقد تعفو الرسوم وتهمدُ
ولا تنمحي الآيات من دار حرمةٍ
بها منبر الهادي الذي كان يصعدُ
وواضح آياتٍ، وباقي معالمٍ
وربعٌ له فيه مصلى ومسجدُ
بها حجراتٌ كان ينزل وسْطها
من الله نورٌ يستضاءُ، ويوقدُ
معالمُ لم تَطْمس على العهد آيها
أتاها البلى، فالآي منها تجددُ
.. وهي كما قال حسان رضي الله عنه «معالم لم تطمس» ولم يتجرأ أحدٌ على طمسها.. ولا يريد أحدٌ أن يفعل ذلك وفيها باقي تلك الحجرات والمعالم التي حدثنا عنها.. فهذا هو التاريخ الذي لا يهدم ولا ينبغي له أن يهدم.
abdalodah@gmail.com
الولايات المتحدة