المجتمعات تتطور في كل مكان، وليس دائماً التطور بمعنى التغير نحو الأحسن، بل هو التغير بالمجمل. ومع تلك التطورات تتغير أفكار الناس، وطرق التعبير عن أحوالهم، وعن الأحداث التي تجري حولهم؛ وهذا يعني أن اللغة أيضاً تتغير مع ما يطرأ على حياة المجتمعات التي تستخدمها من تغيرات.
ذهبت الأيام التي كان يقول الشوفينيون فيها: لقد تغيرت لغة الأجيال، وضيعوا لغتهم، فأغلب الواعين بهذا الوضع، والنخب التي أدركت عدم جدوى التباكي على شيء، هو من سنة الحياة البشرية أن يتغير. وأصبح رصد ظواهر التغير، ودراسة أسبابه وآثاره من مسلمات العلوم التي تعنى بطبيعة حياة البشر الاجتماعية، وكل ما يتعلق بحياتهم من مستلزمات جديدة تتطلب وسائل جديدة في العيش، وفي التعبير عنها بوضوح ودقة. لكن من الذي يدير هذه الإجراءات، أو يتسبب في حدوثها؟ وهل ظروف الزمان هي التي تدعو إلى وقوعها، أم إن هناك شيئاً من القصدية فيما يرومه الناس من تلك الأحوال والأفكار المرتبطة بها، والمواقف المترتبة على تصورات أوضاع الناس في كل حين؟
عرضت لي هذه الأسئلة وغيرها مما يتولد عنها، وأنا أسمع تأوهات بعض الغائبين عن الوعي بالواقع في مجتمعاتنا العربية؛ يتباكون على تفريط الناس في بعض الأشكال الجامدة لعبارات لغتهم. حيث يتحسر بعضهم على كون الناس قد هجروا ألفاظاً محددة من اللغة، يظن أن فقدانها يؤدي إلى ضياع اللغة، وانحسار قدرة أبنائها على استخدامها، ويتباكى بعضهم الآخر على استخدام صيغة ببناء جديد مختلف عن البناء القديم بصوت واحد أو بمقطع، اعتقاداً منهم بأن ثبات الصيغ هو الطريق الوحيد للحفاظ على اللغة، وبقاء الصلة بمراحلها القديمة، التي يظنون بأنها لم تتغير عما قبلها.
المصيبة تكمن في أن أصحاب هذه الأفكار متنفذون، وأعطتهم الهيئات التعليمية والإعلامية مساحة كبيرة من التحرك، ليرزأوا التعليم بهذه الترهات التي جعلت تفكير الناشئة لا يتطور في مسار مواز لما تسير به حياتهم، وجعل الإعلام في مجمله حبيساً لمقولات: قل ولا تقل!
كما لا يعلم أولئك المتفيهقون أن جيل الاتصالات المتغيرة السرعة لم يعودوا يعبأون بقيودهم، فبدلاً من إذعانهم لشروط النطق والبناء الصرفي الصحيح، كما يأمل أولئك الحالمون، تركوا لهم الجمل بما حمل. ولجأوا إلى لغات بديلة وكتابة أيضاً متغيرة، ولا تخضع إلا لما توافق عليه المتواصلون فيما بينهم، كما هي أصول نشأة اللغات البشرية الطبيعية في كل زمان ومكان.
ما لم يحسب أولئك المنظرون حسابه، هو تعدد أوجه المتابعة، وقلة قدرات حتى من أراد المتابعة على الرصد والحصر والتصحيح والتحقق من حدوث كل تلك المراحل؛ خلافاً لقضية موافقة الآخرين على السير في الطريق نفسه، والتجاوب مع ما يريده أصحاب التقييد.
ألم يشعر أولئك المتعقبون أن اللغة لا يمكن أن تخضع لإملاءات مسبقة، وقوالب يحددها أناس غير مستخدمي اللغة أنفسهم؟ ففيض الآلاف من المفردات الجديدة التي تدخل في كل لغة حية، وأضعافها من العبارات الاصطلاحية التي تنشأ في اللغة مواكبة للمتغيرات، أو تحور من عبارات قديمة في اللغة، أو تنقل إليها من لغة أخرى، تغرق المعجم والثروة اللفظية والتركيبية لأصحاب اللغة، دون أن يكون لحراس اللغة القدرة على فعل شيء في هذا الاتجاه. فعندما سمعت المذيع يقول: «إن الكرة في ملعبهم الآن» (وهو طبعاً لا يقصد كرة اللعب)، وآخر يقول: «وقد حمل الهدف بصمات اللاعب... (أو توقيع اللاعب)»؛ قلت: والله إن هؤلاء الحراس لا قبل لهم بما تموج به اللغة، إذا بقيت على قيد الحياة!
الرياض