« بين الزهرة تُقْطف
والزهرة تُمنَح
عدم
لا يدركه التعبير» (1)
الأدب بتعدديته ظلّ مرادف الحياة الممتد, ذاك الذي يخطف من التفاصيل والصور الكبيرة زوايا للنظر, ولالتقاط المشاهد الموحية لانعكاس وقت ما, أو حضارة ما. وأيا كانت لغة هذا الأدب أو مصدره يظل كوة للاقتراب من (آخر ما) أيضاً ومعرفته لفهمه كوننا نشترك جميعاً في المشتركات الكبرى بدءا بالإنسانية, وانتهاء بتفصيل يومي اعتيادي.
من الأدب الإيطالي الذي أظنه لم يسبر بعد, أو لم يوفق بمترجمين حقيقيين اخترت الكتابة عن هذا الشاعر: (أونغاريتي) (المصرإيطالي) بمعنى من المعاني, فقد انغمست رؤاه الشعرية وأفكاره بالصحراء الشاسعة في مصر, وابتلت من جهة بالنيل وحياة الفلاح هناك واللوحة العربية اليومية فترك ذلك أثرا غائصاً حتى في شكل قصيدته, فقد ولد ونشأ في مصر عام 1888 م في الإسكندرية تحديداً, بعد أن استقر والداه في هذه القطعة الطافحة بالحضارة, والتعدد الديني والعرقي, البيئة الصالحة ربما لولادة شاعر أو فيلسوف أو ما كان متاحاً من الاختيارات وقتذاك, إلا أن حياة الحروب والغربة هي من حظيت بذلك.
تأرجحَ (أونغاريتي) غربة ما بين فرنسا, والبرازيل, ومن ثم إيطاليا التي لم يكن يراها إلا في حكايات والده عنها والذي توفي جرّاء العمل في قناة السويس.
تركَ الإسكندرية إلى إيطاليا إبان الحرب العالمية الأولى, وبدأ بنشر بعض من قصائده, ثم إلى باريس أولى المحطات الحقيقية في حياته الشعرية, حيث تكونت ثقافته وبدأت تجربته في التخلّق, كون باريس في ذلك الوقت المصب الذي تنتهي إليه المطابع والتيارات التجديدية, والحركة الثقافية الحيوية. نشر مجوعته الشعرية الثانية بالفرنسية (الحرب) بعد أن نشر الأولى (الخنادق) في إيطاليا إلا أنها مجموعة قليلة تحكمت فيها يد البدايات, ولم تحظ بأي انتشار يرضيه, توالت بعد ذلك المجوعات الكثيرة, وكان أحد المرشحين لنيل جائزة نوبل.
يمتاز شعر (أونغاريتي) بالبساطة العميقة, والعبارة اليومية السهلة, حيث قال عنه سعدي يوسف(2): (كل التأكيد كان على الكلمة ذاتها, كل كلمة صوتها معناها).
ومع ذلك ظلت ثيمة الحرب حاضرة بكثافة - لكونه اشترك فيها جندياً- مقابل المكان المصري الأول, حيث إن هذه الطفولة وحياة التنقل, والحروب, والعمل جندياً ثم صحافياً جذّرت فيه تبني حركة شعرية جديدة, ثائراً بهذا النوع من الشعر والرؤية ضد مشهد الحرب, مما خوله فيما بعد أن يكون من أهم رواد الشعر المعاصر في إيطاليا.
مما قال:
« مستعدا
كنت أمضي في أي رحيل» (3)
وقال:
« أن تموت
مثلما تسقط القبرات الظماء
ميتات أمام السراب
أو كمثل السُمانى
بعد أن تقطع البحر
ها قد خبت خفقة الريش
إن السمانى تموت
عند أول أشجارها»(4)
ومن قصيدة أخرى:
« قرفصتُ قريباً من ملابسي
ملطّخاً بالحرب
سجدت مثل راع بدوي
في اقتبال الشمس
ذاك نهر (النيل) قد أبصرني
وأنا أولد
أنمو
أحترق
مهلاً ملعبي السهل الفسيح(5)
في مياه (السين)
في مضطرب (السين)
تنبهت
وبه أدركتُ نفسي
وأنا في الظلام
يشع الحنين في قلبي
كأنّ حياتي في كلّ نهر
تويج ظلال.».
ومن قصيدة ذكريات من إفريقيا(6):
« الشمس تَخطفُ المدينة
وها هي لا ترى
حتى القبور لن تقف طويلاً بيتي
فوجئت بعد هذا الوقت الطويل بالحب
ظننت بأني قد بَذْرّته
عبر العالم.».
وبعد هذه اللوحة الإيطالية, أرى أن أدب الآخر في أي بقعة زاخر بما يستحق البحث والترجمة المُحْكَمة, للقارئ المهتم وحتى للقارئ العادي.
(1) ترجمة سعدي يوسف
(2) سعدي يوسف, شاعر ومترجم عراقي.
(3) و (4) و (5) ترجمة سعدي يوسف.
(6) ترجمة عدنان المبارك, أديب ومترجم عراقي.
الرياض