كنت قد بدأت في الجزء الأول من هذا المقال عن مشاهد التفاؤل والحب والجمال التي حلَّق فيها شاعرنا المبدع إيليا أبو ماضي، وتوقفتُ عند صورتين سعى من خلالهما إلى الكشف عن الأثر الساحر الذي يُمكن أن يحدثه إيقاظ الشعور بالمحبة وإشاعة روح التفاؤل والسرور في أرجاء هذه الدنيا.
أما الصورة الأولى فهي صورة ذلك الكوخ الذي يتحول بأثر الحب الساحر إلى مكان مضيء يبتسم كل شيء فيه بعد أن كان خراباً مهدماً، ويؤكد ذلك من خلال رسم الصورة المقابلة لذلك المشهد، وذلك حين يختفي الحب ويتلاشى التفاؤل فلا يبقى سوى الظلمة المشؤومة والسواد الكالح حين تسيطر على الإنسان مشاعر الغضب والبغض، وتستولي على مجامع قلبه الضغينة والكراهية، فيُمسي المكان سجناً موحشاً مظلماً، لا أثر للحياة والبسمة بين جنباته.
أما الصورة الثانية التي أتى بها الشاعر للتأكيد على قيمة الحب والتفاؤل وأثرهما الساحر المتجاوز لحدود المنطق والطبيعة فهي صورة تخييلية متألقة تعتمد على الفرضية والاحتمالية، وهي صورة الصحراء التي لو مُنحت شعور الحب وأحاسيس العشق لتغيرت قوانين الطبيعة فيها وتبدلت نواميس الظواهر على سطحها، وتحولت رمالها الشاسعة ومساحاتها المقفرة إلى حدائق بهية وأزهار زكية، بل إنَّ أثر الحب والتفاؤل ليتجاوز ذلك إلى أن يحول ذلك السراب الخادع الذي يلوح في الأفق للناظر من بعيد يحسبه الظمآن ماء - أن يحوله إلى ماء حقيقي لذة للشاربين، إنه الأثر العجيب للحب والمفعول الساحر للتفاؤل، فلا عجب إذن أن يكرر الشاعر هذه الدعوة ويؤكد عليها أكثر من مرة، بل وينظمَ لأجل ذلك القصائدَ الطوال.
وإلى صورة تجسيدية أخرى ختامية من صور شاعرنا المتميزة التي يود أن يكشف من خلالها عن شدة تأثير الحب والتفاؤل في آفاق هذه الدنيا وعلى هذه البسيطة، فيُوضح بشكل افتراضي أنه لو اختفى الحب والمحبون من الأرض ولم يبق عليها إلا واحدٌ كان من المفترض أن يسعدها ويُؤانس وحدتها، فإنها ستتبرم منه وتكرهه وتَمَلُّه وتبغضه إذا كان قلبه مليئاً بالشِّر والحقد والبغض رغم أنها في أشد الحاجة إليه، والشاعر هنا يستعين بتشخيص الأرض والمبالغة في الفكرة لتأكيد قيمة الحب والتفاؤل وإشاعة روح العفو والرضا والتسامح والإيثار وتمنّي الخير لكل الناس.
وبعد هذه الرحلة الشائقة في أعماق نصٍّ قصير من نصوص أدبنا العربي الخالد، وبعد أن امتلأت القلوب قبل الأسماع بروح التفاؤل ونسمات الحب العليل، لا بد أن أقف عند لمحات سريعة تَميَّز بها هذا النص التفاؤلي استحقَّ معها هذه الشهرة، ونال بسببها مكانةً مرموقة في تاريخنا الأدبي الأصيل، محاولاً أن أكشف عن أبرز الجماليات التشكيلية والرؤيوية التي تجلت خلال تلك الأبيات المتألقة.
1 - الموضوع المتميز والفكرة الرئيسة التي يدور حولها النص، وهي فكرةٌ تفاؤلية مليئة بالحب والابتسام وتدعو إلى اعتناق هذه المبادئ والعمل بها في شتى ميادين الحياة، ومع جميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم.
2 - الاستهلال الرائع للقصيدة، وهو استهلال استثنائي لافت، استثمر الشاعر فيه مقدرته الفنية والتصويرية لإضفاء الجمال والروعة في النص منذ الوهلة الأولى ليكون المتلقي مستعداً لاستقبال المزيد من الإبداع التفاؤلي.
3 - اللغة السهلة البسيطة الخالية من التعقيد والفلسفة والغموض، وهي خصيصةٌ أحسب أنها لا يمكن أن تفوت على المتلقي الذي يقرأ النص لأول وهلة، فقد جاءت لغة الشاعر في غاية الوضوح والسهولة، فلا تكاد تجد لفظاً غريباً أو مفردة غامضة، وعلى الرغم من ذلك فقد جاءت معانيه عميقة مبتكرة، وجاءت أفكاره في غاية الدقة والإحكام، ومن يستقرأ ديوان أبي ماضي يعلم أن جمعه بين اللغة السهلة والمعاني العميقة صفة ليست بغريبة على نصوصه المتألقة.
4 - الأسلوب الإنشائي الذي طغى على القصيدة وسيطر عل معظم أبياتها، فنجد أفعال الأمر في مطالع الأبيات: (كن) (أحسن) (أيقظ) (أحبب)، (أبغض)، ونجد أسلوب النهي في (لا تبخلن)، ونجد أسلوب الاستفهام في (أي الجزاء؟) و(من ذا يكافئ؟)، والاعتماد على الإنشاء في هذا النص لا يدعو إلى العجب، حيث إن الشاعر في سياق توجيه وتقديم دعوة، وفي مقام إرشاد ونصح وتذكير، لذا كان الأسلوب الأمثل لتقديم هذه الفكرة هو الإنشاء بصوره المتعددة، والشاعر يستثمر هذه الصور خير استثمار للكشف عن دعوته التي يدعو إليها.
5 - التصوير الفني المتألق الذي فاضت به هذه الأبيات القصيرة، فقد تزاحمت عند أبي ماضي الصور الخلابة والمشاهد التخييلية الرائعة، وتماهت بجمالها وتألقها مع هذه الدعوة التفاؤلية، فاتسق التصوير مع الفكرة، وتناغمت الرؤية مع الصورة.
6 - تدعيم الدعوى بالدليل والبرهان، فحين دعا إلى الإخلاص وعدم انتظار الجزاء أقام الدليل على هذا بأنَّ ذلك من نواميس الحياة وضرب مثلاً بالغيث الهامي والزهرة الفواحة والبلبل المترنم، وحين دعا إلى إيقاظ شعور المحبة أكد على أنها هي الفارق بين الإنسانية وغيرها.
7 - الاعتماد على التناقض والتضاد في إقامة الفكرة الرئيسة من النص، فالشاعر يعتمد كثيراً على المقابلات والمتناقضات المتضادة لبيان فكرته الداعية إلى التفاؤل وحب الخير ومساعدة الغير، فقابل الأرقم بالبلسم، وقابل العلقم بالحلاوة، وإن كان الحب يجعل الكوخ مضيئاً، فالبغض يجعله سجناً مظلماً، وهذا التقابل منح النص روعة وبهاءً، وأضاء أبعاد الصورة فيه.
8 - ورغم أن الشاعر قد أجاد في اختيار مفرداته التي بنى من خلالها هذا النص التفاؤلي غير أنني أحسب أنه لم يوفق في اختياره لفظة (الكوخ) في قوله:
(أحبب فيغدو الكوخ كوخاً نيرا، أبغض فيمسي الكوخ سجناً مظلما)، فلو وضع مكانها لفظة (القصر) لكان أجمل وأقوى في المعنى، لأن الكوخ صغير وغير مبهج للنفس بعكس القصر الذي يتميز عادةً بالجمال والحدائق والمساحات الواسعة.
* * *
وبعد.. فهذا هو شاعرنا المبدع إيليا أبو ماضي.. وهذه هي دعوته الرائعة.. التي يسعى من خلالها إلى بث روح التفاؤل والخير.. ونسمات الحب والإيمان في قلوبنا وأسماعنا.. فسطَّر لنا هذا النص البديع المتميز.. بلغة صافية وأدب رفيع وصورة فنية مذهلة.. فنال رضا التاريخ ليجعله ضمن صفحاته الخالدة.. يستحضره الناس في كل وقت وخصوصاً حينما يدب إلى قلوبهم التشاؤم.. أو تستولي على بعضهم مشاعر الكراهية والبغض.. لتبعث آفاق الأمل في أفئدتهم.. فيرون الحياة بعين الرضا والمحبة والتفاؤل..
Omar1401@gmail.com
الرياض