مثلت العلاقة بين النص والقراءة موضوعا للدرس والنظر على اختلاف مستوياتهما، فمن خلال هذه العلاقة نشأت الدروس الدينية، والأحكام الشرعية، والقضائية، ومنها أيضا نشأت المعاني البلاغية والقواعد النحوية. وقد سارت الدوائر المعرفية المختلفة تبحث في جوانب النص، والآليات المختلفة التي من خلالها تحقق ما يطمح إليه في تعاطيها مع النص.
وقد لا أكون مبالغا إذا قلت إنه منذ العصر الجاهلي، وتلقي النصوص وفهمها أخذ مشارب شتى، ولم يكن معنى النص المباشر هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع النصوص الشفهية في ذلك الوقت، وقصة المثل المشهور» وافق شن طبقه» معروفة، وتدل على أن النص قد يكون له معاني غير مباشرة، فلا يتمكن من كشفها، وإدراكها إلا قلة من أصحاب البصيرة النافذة.
بل إن النص الجاهلي نفسه قد أخذ الدارسون القدماء في تفسيره كل مذهب، ولولا اختلافهم في تحديد المعنى، وما يرتبط بهذا النص من آراء لما تعددت الشروح، وكثرت المعلومات التي يوردها الشراح في البيت الواحد، من مثل اللغات التي يوردونها، والوجوه النحوية والتي ترتبط بالقائل بقدر ما ترتبط بالمتلقي.
وفي الدرس الأدبي الحديث أصبح تناول النصوص، ودراستها عملية ذات جوانب مختلفة، تحدث فيها الدارسون، ووضعوا فيها الكتب، والنظريات المعمقة، ولم يعد الفهم المباشر السطحي للنص هو الحكم عليه، خاصة من أصحاب النظرة المتعجلة. هذه العملية جعلت الدارسين يدرجون الحديث عن النص الأدبي في مستويات متعددة أولها الفهم الانطباعي المباشر للمعنى، والذي يقف على المعنى الحرفي المباشر للنص, ويعتمد على آليات انطباعية في تحديده. المستوى الثاني، وهو الذي يشرح النص، ويبين ما غمض منه، ويعتمد على القراءة السطرية في تقصي ما يحتاج إليه من شرح، وهو بعد ذلك لا يبحث عن أكثر مما يدل عليه النص دلالة مباشرة بعد جمع الكلمات بعضها إلى بعض، أما المستوى الثالث فإنه يغوص في أعماق النص، وينظر إلى المعطيات النصية مجتمعة أو متفرقة بوصفها عناصر قادرة على تحمل المعنى، وبثه. وهو يرى أن القراءة تكون عملية عقلية منهجية، واعية كما قد تكون عملية مباشرة غير واعية أيضا.
وفي المستوى الأخير جاءت النظرية المتعددة للبحث عن المعنى وتأويل النص، ابتداء من الشكلانية وحتى يومنا هذا، وتعتبر المعنى أمرا كامنا في النصوص يسعى القارئ لاستخراجه من خلال المعطيات المعرفية والثقافية التي تكون منها النص، ومن خلال ما يثيره النص في المتلقي من مشاعر مختلفة بسبب تلك النصوص، كما لم يصبح الدال على المعنى هو المستوى الطولي للكتابة، وإنما كل العناصر الدالة يمكن أن تجمع لتشكل أداة للقراءة ووسيلة لمعرفة المعنى.
هذا التحول في القراءة وآلياتها، ومفهوم النص جعل العلاقة بين النص والقراءة موضع سؤال عند بعض الدارسين؛ هل أصبحت القراءة نشاطا مستقلا عن النص لا علاقة لها به، وهل أصبح المدار على القراءة لا على الكتابة، كما أصبح من خلال القراءة يمكن جعل كل نص عظيما؟
وعلى الرغم من أهمية هذه الأسئلة بوصفها الوسيلة الأولى للمعرفة، إلا أنها في أساسها تنطلق من رؤية تقليدية للنص، والدلالة، بوصف النص ذا معنى واحد لا يتبدل ولا يتحول، وبوصف الدلالة هي المعنى المباشر الذي يقول النص في بنيته النحوية التركيبية، وما عداها فليس بدلالة، على الرغم من أن أهمية القراءة للنص أمر حقيق، فالقراءة هي التي تبعث الحياة في النص، وتكشف الجوانب الدالة فيه، وحين يقرأ النص قراءة محددة تظل على الأزمان مكرورة، وهذا يفضي إلى موات النص، بتحوله إلى معنى مستهلك، وتصبح قيمته من الناحية التاريخية باعتباره الأول الذي وصل إلى ذلك المعنى، وليس بوصفه رائعة إنسانية خالدة بما يستطيع أن يعبر عنه من معنى متجدد يعبر عن حياة الإنسان أينما كان. ومن ناحية أخرى نجد أن القراءة هي التي تشحن النص بمعنى مختلف عن المعنى السابق، وتفتح فيه المجال للقول، وتعيده إلى السطح بعد أن خمل وصار نسيا منسيا بانشغال القراء بمعنى جديد، وحادث جديد، ونص جديد. ومن هنا لا يمكن القول إن القراءة ليست ذات أهمية، أو أن معنى النص هو مستوى واحد، أو أنها ليست ذات قيمة بالنسبة للنص. وكثير من الروائع الأدبية إنما أصبحت روائع لكثرة الدارسين الذين تناولوها واستخرجوا منها المعاني وكشفوا عن معدن الجمال والعمق الكامن فيها. ولا يمكن أن نربط النص بقراءة واحدة، أو بقارئ واحد قد يكون سطحيا، أو متعجلا، أو ضعيف الثقافة، فتنشأ عنه قراءة سطحية، تضعف النص، وتقضي عليه، ونحن نعلم أن استنباط المعاني، والدلالات أمر يتفاضل به الناس، وتختلف به الأفهام، وكان القدماء يردونها إلى قوة العقل، فمن الناس من يستنبط كثيرا من المعاني والدلالات من النص القصير، ومنهم من يقف أمام النص الطويل لا يجد شيئا سوى أن يقطع النص إلى أجزاء ويعيد صياغته. وهذه الدلالات هي القراءة التي جاءت الدراسات الحديثة في العناية به، والاهتمام.
وهنا يرد سؤال عن المعنى أين يكمن، فإذا كان القراء يتفاضلون باكتشاف المعنى، واستنباط الدلالات، والنص لا يقول كل شيء مرة واحدة لقارئ واحد، فأين يكمن المعنى؟ في الجواب على هذا السؤال لا يمكن أن نغفل النص من تحمله للمكونات الأساسية للمعنى، والدلالة، فهو يحمل في طياته، من خلال الأدوات التي تشكل منها، الإشارات المختلفة للمعاني التي تدل عليها تلك الإشارات، وهو الذي يحيل إليها، فالأساس هو النص بطريقة تكوينه، وبالمعطيات الموضوعية فيه، التي تمكن القارئ من تلقف هذه الإشارات وشحنها بالدلالة الكاملة، وهو ما عناه امبيرتو إيكو حين اعتبر أن إحدى سمات النص أنه «آلة كسول تقتضي من القارئ تعاونا حثيثا لملء فضاءات المسكوت عنه»، فالمعنى كما توجد أدواته في النص يوجد أيضا في القارئ، والقارئ الذي لا يملك المعنى في داخله لا يمكن أن يكتشف المعطيات التي تعبر عن المعنى العميق، ولا يمكن أن يفك الشفرات التي يتحملها النص في إحالته إلى تلك المعاني، ومن هنا فإن وجود القارئ العميق الممتلئ بالمعاني لا يقل أهمية عن الأدوات التي يتكون منها النص وتحيل إلى المعاني المختلفة.
وقد انشغلت الدراسات الحديثة بهذه القضية فاعتبرت المعنى «إنتاج» بمعنى صناعة قائمة بذاتها، واهتمت بالبحث عن الأدوات المختلفة التي تنتج المعنى في النص، وتسهم في تحمله وإعطاء إشارات متنوعة، بالإضافة إلى جعل هذا الإنتاج نشاطا علميا منهجيا قادرا على تكراره باختلاف النصوص طالما تكررت الأدوات، وهو ما يجعل هذه الدلالة صحيحة مقبولة في نسبتها إلى النص بوصفها تستعمل أدوات معرفية متفق عليها لدى الدارسين والمنتسبين إلى الحقل.
ومما يظهر فيه الفرق واضحا بين القراءة والشرح أو التفسير موضوع الطلل في الشعر الجاهلي، فالنص حينما نقرؤه قراءة سطرية يبين لنا أسماء المواضع التي فيها أطلال المحبوب، ويدعو إلى الوقوف عليها، وغاية الوقوف هو تذكر المحبوب، والبكاء عليه، لكن السؤال الذي لم تجب عليه قصيدة في دلالتها المباشرة، لماذا القصيدة تبدأ بالنهاية: نهاية الطلل، نهاية مدة بقاء المحبوب في هذا المكان، نهاية اللقاء بين المحبوبين، لماذا لم تكن هذه النهاية في ختام القصيدة؟ هذا السؤال من وجهة نظري ذو أهمية، ولا يمكن الوصول إلى معناه، وقيمته الدلالية من خلال النظر السطحي إلى النص، أو القراءة السطرية كما تدل عليه مفردات القصيدة وتراكيبها، وإنما من التأمل والتأويل، وربطها بمقصد الشاعر الظني طبعا، والسياق العام للقصيدة اللغوي، والأدبي، والاجتماعي والنظر إليها نظرة متكاملة يمكن أن يدلنا على معنى، ثم لا يمكن أن نقول إن هذا المعنى غير صحيح، لأن الشاعر لم يقله، أو لا يرتبط بالنص، لأن هذا التفسير والتأويل يسد فراغا كبيرا من فراغات النص لا يمكن ملؤه إلا من خلال القراءة العميقة التي يبينها القارئ بما يجد في نفسه حيال هذه الظاهرة وهي الطلل في هذا الموضع.
وتمثل دراسات عبد الفتاح كليطو حول المقامات العربية القديمة نموذجا للدراسات الجديدة القيمة التي فتحت المجال في إعادة قراءة المقامات، وكشفت عن عناصر متنوعة في تحليلها، وإنتاج المعنى فيها، فنجده في قراءته لمقامات الهمذاني يركز على طابع الرحلة، والسفر في النص، فيستخرج مكوناته أولا ثم يجعله طريقا لقراءة النص من خلال اعتباره سفرا في المكان، والزمان، والعصور، ومقارنته بأحد كتب الجغرافيا الأدبية، وهي قراءة مكنت الباحث، والقارئ على السواء بالوقوف على جوانب متعددة في المقامة من مثل حياة الشخصيتين، وموقف كل واحد منهما، والموازنة بينها وبين شخصيات واقعية، وبيان ملامح الشخصية الرحالة في المقامات، مما لا يعد في موضوع المقامات المباشر والذي تناوله الدارسون الآخرون واكتفوا به.
وهو بهذا يخط منهجا للدراسات التي تناولت المقامة، فتجدها تخلط الحديث عن تاريخ المقامة، بتحليلها، بالردود على الدارسين السابقين، بعناصر المقامة الفنية دون أن يكون هناك نظام معين في تناول القضايا المدروسة، بل دون أن يكون هناك قضية واحدة يدور حولها الحديث.
الرياض