كانت تفخر بكراستها والأحمر يزيّنها بـ(ممتازة)، (بارك الله فيك)، (رعاك الله)، (إلى الأمام) وكل العبارات المشابهة. ألفت الآذان صوتها؛ فقد فرضها استاذ (ياسر) قارئاً رسمياً لكل دروسه، كما لم يكن يقتنع بأن سبورته نظيفة ويمكنه بدء الدرس مالك تمسحها (مودّة).
في ذلك اليوم سعِدت بمذكرة اللغة العربية التي أهداها إيّاها أستاذها لإحرازها أعلى درجةٍ على مستوى المدرسة، وكثُر بعد ذلك تردد اسمها على لسان الجميع وعلى لسان أستاذها ياسر خصّيصاً؛ فكان يناديها مراراً لتكليفها بتوزيع الكراسات مرة وأوراق العمل مرة وأحياناً لأسباب واهية! وذات مناداةِ واهية الأسباب قال: يا مودّة عندي مجموعة من البنات والأولاد الشطّار عامل ليهم مراجعة مجانية قبل الامتحان في مدرسة (النجّاح) بعد بكرة الساهة 4 عصر، تعالي أحضريها وحتستفيدي جداً.
تهلّلت أسارير مودّة - بالطّبع - فتلك الأيام مثل هذه المجموعات ذات حجز مسبق وبمبالغ خرافية، وما شجّعها أكثر قرب المدرسة المذكورة من مسكنها، فهزّت رأسها إيجاباً وهي تلهج بالشكر لأستاذها الجليل.
في تمام الثالثة والنّصف كانت مودّة تخطو بهمّةٍ نحو حصّتها المجّانية؛ غير عابئةٍ بحرارة الشمس وخلو الشوارع. دلفت إلى المدرسة التي أشبهت المقابر هدوءاً، وفي ممر المكاتب الطويل وجدت يمينها لافتة خشبية تقشّرت بفعل الزمن مكتوب عليها (مكتب المدير) وتحتها بابٌ مغلق، فالتفتت يسارها فرأت ذات المنظر بلافتة أخرى كتب عليها (مكتب الوكيل)، تقدّمت بثقة نحو المكاتب الأخرى وذات اللوحات القديمة تحتها أبوابٌ مفتوحة، (شعبة الأحياء)، (شعبة الرياضيات)، (شعبة اللغة العربية)، (شعبة الـ...)، كانت عيونها تدور باحثةً عن أستاذها ومجموعتها بين كتل الطلاب والطالبات الملتفة حول المعلمين. وصلت آخر الممر لتجد مكتباً ضيّقاً لم يحمل أي لافتة تدل على هويته ولم يحوِ سوى (تربيزةٍ) مهترئة وكرسيان يجلس استاذ ياسر على أحدهما.
ألقت التحّية على وجل عندما رأت شبكة عنكبوتٍ في ركن الحائط وذبابةٌ تقاوم لزوجة الشباك، شعرت بعدم الأمان لوهلة؛ فبادرت بالسؤال:
- ما في زول جا يا استاذ؟
- ما في زول جاي يا مودّة.
أحسّت أنها نبرة غريبة عليها، حتى اسمها الذي اعتادت سماعه من استاذ ياسر كان غريباً! أشار لها بالجلوس، فجلست بفعل أرجلها التي - ماتت - فسألها في مبادرةٍ لتغيير الجو الملبد بالقلق والارتياب:
- أها.. قارية كويس؟؟
فأجابت باطمئنانٍ حاولت أن تستجديه مبتسمة:
- الحمد لله يا استاذ.. تمام التمام.
فمدّ يده عبر الطاولة قائلاً في مزاحٍ غريبٍ لم تعتده أيضاً:
- طيّب ازيّك؟؟
مدّت يدها وهي تحسّ أنها مسافةٌ طويلة جداً لتضع كفّها الصغير في راحته المفتوحة عن آخرها.
لم تكن رجلاها فقط (الميتات) آنذاك، فيداها تلك اللحظة لحقت بأرجلها، بل وأثلجت وبرد معها - حيلها - تماماً. تملّكها رعبٌ حقيقيّ وقد عمل رادارها الأنثوي لأول مرة بجديّةٍ وكفاءة؛ مخبراً إيّاها بأنها في ورطة حقيقية، وكان رأسها يدور بشريط ذكرياتها مع هذا الرجل الذي لم تحس برجولته إلاّ عندما بدأ يمرر أصابعه الخشنة - بفعل الطباشير - في معصمها الرقيق وتمادى حتى كاد يلبس صدرها الناهد الصغير الذي لم تُعِره اهتماماً يوماً بلبس (صدريةٍ) أو تغطيته بوشاحٍ أو طرحة.
خرج صوتها متحشرجاً وهي تسحب يدها في ثقل وكأنها ليست يدها:
- يا استاذ ده شنو؟
- أنا أستاذك حتبخلي علي؟؟
- أبخل بشنو؟؟
- أسمعي كلامي بس.....
وقفت بصعوبة وقد أظلم كل شيء حولها، حاولت أن تنظر لجسدها الهزيل من خلال دموعها علّها تعرف ما يعني بكلامه وإلى أين تنظر عيونه بالضبط!
قالت في مرارة:
- عشان أنت أستاذي حأمشي بس.
هرول إلى الباب في هيجان ثور وأغلقه بسرعة، دبّت فيها قوّةٌ لم تعرف مصدرها فقالت:
- أحسن تخليني أمشي قبل ما أصرخ فيك وألم الناس عليك.
ابتعد عن طريقها وقد خشي أن ينتهي عمره المهني الطويل بفضيحة بعد أن أمضى أكثر من عشرين عاماً واسمه يطلب يطبع في المذكرات وفي إعلانات المدارس ويذاع مع المتفوقين.
جثا على ركبتيه وتحوّل إلى طفلٍ مدلّل يرجوها ويتوسل أن تكون بين يديه ولو لحظةً واحده لأنه تمنّاها منذ أول يومٍ رآها فيه. لكنها كانت تقف كصنم، جفّت دموعها وثقبت نظرتها جيفته النّتنة.
أدارت ظهرها؛ فتحت الباب بهدوء وسارت بخطاها المتثاقلة ورأسها يكاد ينفجر وهي تشعر تارةً أنها كانت في كابوس وتارةً تصدم بالحقيقة فتبكي بحرقةٍ.
* الخرطوم - السودان