للرواية سحر لا يلبث أن يغيبك عن اللحظة لتنساق في مجرياتها تتألم لألم هذا وتأسى على ذاك وتتنقل بفكرك لأي موطن رحل أشخاصها إليه بل يحدث في كثير من الأحيان أن تتقمص أحد شخوصها تقمصا تندمج فيه ملامح شخصيتك حال قراءتها ولا تعود لك ذاتك إلا بعد زمنا قد لا يأتي ومن هنا كانت الرواية أداة فاعلة ومؤثرة.
ومن هنا كانت أميمة الخميس الحدث الأجمل إيقاعا في سمفونية أحدية سارهالخزيم أول صالون ثقافي نسائي بالخرج حيث شهد يوم الأحد ثاني أيام شهر رجب لقاء مفتوحا مع أميمة تلك المهرة العربية التي صالت وجالت في روضة الرواية دون قيد أو حواجز إلا الدهشة والإدهاش وقد فتحت فيه الحاضرات مسارات عدة للنقاش أحببت أن يشاركني القراء شيئا من مجريات ذلك اليوم.
الرواية وسيلة لاكتشاف الذات والعالم من حولك
- يظل السؤال (حدثينا عن تجربة السرد) هو السؤال التقليدي الأبرز عند لقاء أي روائي لكن الإجابة الاستثنائية جمالا وعمقا حين أجابت
- يظل الكاتب في حالة مغامرة أبدية منذ المباغتات الأولى وحتى لحظة سؤال كهذا عندما يطلب مني أن أقدم (شهادة سردية) حول تجربتي، فسيبدو العنوان غامضا وفضفاضا نوعا ما، وكأنني أغطس يدي في غيمة ومن ثم أستعيدها فارغة، كيف أبدا ومن أين؟
فالسرد هو غابة.. مغيبة وراء المحتمل والممكن.
ولا أظن أن أحدا منا قد غادر منزله اليوم، ليستمع إلى مجموعة من الرصف الإنشائي عن تجربة السرد، أتوقع أن المستمع يطمح إلى تتبع خارطة جلية فاضحة الملامح ، حتى لا يتربص به الإحساس بالعبث أو اللاجدوى.
حين اكتشفت أميمة لعبة السرد اتخذتها صدفة تحميها في حديثها عن أول بواكير السرد كشفت أميمة أن الشعر راودها زمنا عن نفسه حتى هجرته طوعا بحس الأنثى الشرقية المحاصرة.
تقول أميمة في ذلك: (في بداياتي الأولى كنت مفتونة باللغة، لربما اختار نجم سعدي أن أكون مطوقة بهذا المناخ، وهذه الفضاءات، أن أولد وحولي على مرمى النظر أحرف ومفردات, ويتبرعم الوعي على الجدران التي ترصف فيها الكتب من الأرض حتى السقف، ونكهة الأمسيات التي كان يقضيها أبي وأمي تحت شجرة ياسمين في الحديقة المنزلية، وهما منهمكان في مراجعة كتاب، حيث والدي يقرأ وأمي تدون، أو أبي يقرأ وأمي تراجع، أمي تلك الكنعانية الفلسطينية الباذخة، أفضت إلى قلب نجد، وداخل عباءة رجل يعاني من حلم كبير فشاطرته بعضا منه.
مازالت أذكر المستودعات الخلفية للمنزل حيث تعبق رائحة الورق نسخ من مؤلفات الوالد، وأعداد هائلة من جريدة الجزيرة (عندما كانت مجلة), الكتب تشغل الحيز والفضاء حولي، كان الكتاب كائنا منزليا أليفا يشاركنا جميع ردهات المنزل، أما الصحف اليومية فكان يتأبطها الوالد وهو يلج المنزل من العمل بحنو وحرص، فأشعر من خلال هذا الحرص بأن داخل جنبات هذه الأوراق الكبيرة التي تطوى وتنشر بين يديه هناك حقولا وحدائقا وبهجة لاتندثر. لربما كانت هذه هي البئر الأولى. التي تشربت أصابعي منها وعي القداسة والتقدير لفعل الكتابة، وقتها لم أكن أعرف أن هذا العبث سيفضي بي إلى ضفاف نهر الشعر، ولكن اقتراف الشعر داخل الخدر لم يكن أمرا يسيرا، رحلة غامضة بلا ذاكرة نسوية أو خريطة، الشعر كشف وبوح وافتضاح.. وانتهاكا لجلال الخلوة، الشعر هو الدماء الطازجة التي تستجلب قطيع السباع باتجاه اللحم المكشوف، واالترانيم التي تتحدى العتمة وصمت الخباء القديم، وبعد لربما عدد محدود من القصائد لا يتجاوز بضع غيمات صيف تمر لاهثة عجلى، وجدت أنني أستجير بالحكاية وبالسرد.
في هذا الموقع تنكست أولى راياتي من الرقيب وفررت إلى أرض الحكاية فخلف دروبها شخوصها ومدنها وردهاتها سأتوارى وأختفي وستصبح لعبة الكلمات أكثر طمأنينة.. وأحظى بخلوتي التي تجعلني أعيد معابثة الكلمات بشكل يتوافق مع شروط المدن السحرية الغائبة في حقيبة أسطورة.. ولكن ماذا عن الذائقة الفجة غير الناضجة؟
وهناك في أرض الكلام
بدأت الحكاية فكانت مجموعات من القصص القصيرة أشعر الآن أنها دوزنة وترنيمات خافتة لأدواتي السردية قبل أن أشرع في المعزوفة الكبرى.. الرواية)، الرواية تختزل الشعر وتتوسل الفنون الحديثة.
وفي محضر حديثها عن خصائص الرواية ذكرت أنها لم تختزل الشعر وحسب بل وجدت فيها عوالم من الفنون التي وضعت الرواية في صدارة المشهد الثقافي فضلا عن كونها أزاحت الشعر جانبا قليلا لتحل محله في كونها ديوان العرب ليس من جانب التزود بالأخبار والأحداث بل في كونها استطاعت استيعاب جل -إن لم يكن- كل التجربة الإنسانية والفنية حيث تقول: الرواية هي الصيغة الأكثر نضجا في مسيرة الإبداع والشكل الأكثر تعقيدا وتركيبا للفنون كلها، فهي تختزل الشعر جموحه وعوالمه المتوهجة، وتدرج المسرح حواره فلسفته وبعده الدرامي, أيضا الرواية تتوسل الفنون الحديثة من خلال السيناريو والتقطيع والاتكاء على الحوار للمعالجة الفنية.
الرواية تكتنز داخلها كل الأشكال الإبداعية، لذا تبدو الشكل الأكثر اقترابا من الحياة ومن خلالها يتم رصد الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية والتاريخية للشعوب، الرواية باتت.. ديوان العصر الحديث.
الرواية هي محاولة استرجاع المادة الأولى للعالم، تفتيت المشهد إلى جزيئاته الصغرى، ومن ثم رصفها من جديد وفق شروط مستجيبة لمشيئة تتحدى العدم)، الرواية أرض مارد أضاع القمقم لينشد الحرية.
وفي حديثها عن مستوى الحرية والبوح والمكاشفة في الرواية ذكرت (الرواية هي أرض مارد أضاع قمقمه، وأن فرح في البداية ببهجة الحرية والآفاق المنداحة والأضواء الكاشفة، لكنه حتما سيعي في مرحلة ما التكاليف الباهظة للحرية، وسيصبو أن ينكفئ هادئا داخل الظلال الهادئة الأولى لقمقمه، لأنه سيكتشف في لحظة ما أن الحرية باتت تقتات من نفسه وجلده وروحه والسيرة الذاتية لمرابع طفولته).
وفي موضع آخر كان النص التالي لأميمة الخميس حول الرواية بين البوح المتواري والفضح المتواني (لا يمكن أن نخطو إلى عالم الرواية، ومن ثم نعود منها إلى مواقعنا الأولى، أنها كبوابة الأبدية تقتنصنا خلفها فنبقى هناك، فوراء بوابتها ستغادرنا تلك الشيطنة والخفة التي كانت لأجنحتنا عندما كنا نكتب القصة القصيرة، حيث نعبث بالتفاصيل ونهدمها, نبعثرها، ثم نعود إلى القوقعة آمنين مطمئنين دون أن يكتشفنا الحراس) مآزق الرواية التي تعصف بها وتوقف نموها.
ذكرت المبدعة أميمة أن الإيديولوجيا تقتل الرواية فعلى الكاتب أن يضع في حسبانه أن هدف الكتابة والرواية الأول الجمال جمال الفكر والإنسان والأخيلة وليس إيديولوجيا، كما أن تشبع الرواية بأحاديث المجالس (السوالف) تفقدها الصيغة الفنية التي هي أول ملامح الرواية والكاتب الذكي المبدع هو من لا يترك للقارئ فرصة اكتشاف صنعته أنها خفية لو أدركها القارئ فور قراءته للرواية لمجها ورفضها، ولم يجد لديه الرغبة في مواصلة القراءة فالمتعة هي مهمة الكاتب ليحتفظ بقارئ روايته أما السوالف التي تشعرك أن تقرأ صحيفة يومية فهي ليست رواية لطالما قرأنا الكثير من الروايات والطروحات السردية المتورطة بالمأزق الأيدلوجي فتصبح عندها الأسطر كصفوف من الجند التي تسبح بحمد الأيدلوجيا، عندها يهرع القارئ إلى إطباق الكتاب قبل أن يطبق على نفسه لأن الكاتب عجز عن أن يمنحها خفتها وليونتها واقترابها من الأرض الإنسانية المشتركة.
ولكن المأزق الأخطر الذي من الممكن أن يترصد بالرواية هو أن نتركها لهباء التلقائية وتداعيات الصدف خالية الوفاض من الحرفية والصنعة، خاضعة للمزاج مشتته التفاصيل، وعندما أقول هنا حرفية وصنعة أشير إلى الحذاقة الفنية المستترة عن أعين القارئ الذكي، ومن هنا لابد من محور ارتكاز, يلتقط يد القارئ برفق ومن ثم يبحر به.
فعندما أصف الشخصية من الخارج فإنني أصنع تمثالا, وعندما أصف الحدث من الخارج سأكتشف أنني كتبت خبرا صحفيا ودون أن يستجير الكاتب بكل حمولته الفكرية والنفسية والتاريخية، ويسكبها في أرض الرواية فستكون محض تفاصيل يومية لربة منزل متثائبة).
الشرط الفني للرواية لحوح ومتطلب، فلا تمنح إجازة الدخول دون أن تمام السيطرة على الأدوات (تراثنا السردي في غالبيته مسطح مباشر يكابد الواضح الفاضح، لم يتعقد ولم يداخله دهاء الصنعة، ولم يستجير بمدارس علم النفس في صناعة الشخصيات، أو الفلسفة المتعجرفة في تبرير وتفسير وتسويغ الأحداث، إرثنا السردي كان يقطف الحكاية بأنسها وجنها وهي فجة ويناولنا إياها لتعالجها بأسنان المخيلة، ومن هنا كان المأزق الذي يترصد بالعديد من الإنتاج الروائي المحلي، فالكاميرا وأعاجيبها وانعكاساتها تغرينا بالالتقاط السريع المباشر ومن ثم المغادرة الحيادية للمكان، لكن الشرط الفني للرواية لحوح ومتطلب، فلا تمنح إجازة الدخول دون أن تمام السيطرة على الأدوات، والتأهب بأحبار ينابيع بكر غير مطروقة، فننشئ مدنا قد تبدو في الوهلة الأولى متطابقة مشابهة لها نفس قوانين المرور وسحنة المارة لكن في الحقيقة هي مدينة مارقة على المألوف والسائد).
وفي دائرة الصنعة الفنية والأدوات الروائية تركز النقاش حول رواية البحريات كمثال حيث حدثتنا أميمة: (فوق البرزخ الذي يفصل البحر عن البر أعشبت رواية البحريات ومن خلال مئات المفارقات الحسية باللون والطعم والرائحة، كنت أنسج خيوط الرواية، مستعينة بالقانون الفلسفي حول الأضداد، على اعتبار أن الهوية تتحدد إذا جاورها ما يغايرها أو يباينها أو يتقاطع معها أو كما يقول الشاعر:
ضدان لما اجستمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
هذا المحور بالتأكيد هو الذي ساعدني في صب البنية الرئيسة أو الجذع، والذي نمت منه ومن حوله الفروع والأزهار والعصافير المستوحشة، والبوم الخجول والبرتقال الذي لا يفقه لغة الصحراء).
ومن هناك أيضا كان السطر الأول في رواية البحريات (كانت فاقعة مفرق شعرها الكستنائي المشقر يلتمع تحت غطاء رأسها، نبرات صوتها وألونها البراقة لا تتناغم مع الألوان الترابية المطفئة للمكان وأصحابه).
مدخل مباشر يمرر إلينا الرسالة من أول سطر قائم على السمكة بهيجة المبتهجة بألوان البحر، تشاغب غرفة صحراوية وقورة لم تعتد أن تجاهر بألوانها.
التضاد أو التجاور بين الظرفين هو بطل الرواية، هو اللاعب الخفي الذي كان يحرك الشخصيات ويسخرها كي تخدمه، كان يستثمر فرادة التجربة الإنسانية الواقعة ما بين مزاج البر وبهجة البحر بجميع تفاصيلها وتحديات ظرفها الوجودي).
شخصيات سجى تمردت علي ورفضت وصايتي)
وتحدتث عن رواية زيارة سجى بأن تجربة السرد فيها كانت مختلفة إذ لم يكنز ما السرد محصور بشخصية واحدة بل عدة شخصيات لكل منها سرده وتفجر الموقف الروائي والسردي عن تفرد لكل شخصية كأنها تقف متفرجة فقط.
وفي نهاية المطاف كشفت أميمة أن روايتها القامة ستغوص أغوار التاريخ وأنها تعكف على استحضار بعض الأطياف التاريخية.
كانت أمسية بمثابة التبضع في بستان زهور لا تعرف أي زهرة ستحملها خارجا تتملكك الحيرة وأنت تنظر حولك تحتار أي لون هو الأجمل وأي رائحة هي الأكثر عبيرا لكن سلتك حين الخروج لن تكون خالية كما هو الآن بين هذه الأسطر قد لا تكون كل الحديقة هاهنا لكن بعض زهورها وعبق ورودها ضمنته هذا التقرير.
الخرج