(أ)
أحدٌ ما، قال: (اليسارُ ضميرُ العالم).
(ب)
ليست المصطلحات والمفاهيم بمنأى عن محاكم تفتيش، حالها كما حال الأشخاص الذين يتعرّضون لهكذا استبداد، ولعلّهم لم يمرّوا بهذه الويلات لولا حملانهم لمصطلحات ومفاهيم منبوذة وفقاً للفرز الديني للواردات الفكريّة السياسيّة بين (متقاربٍ أو مقبول أو ملعون) استناداً إلى انتقائيّات تاريخيّة-دينيّة، وبعيداً عن ضرورة الواقع ومدى صلاحيّة الواردات له، والهدف من هذه المحاكم التفتيشيّة وصولها إلى ثلاث حالات: (البديل الإسلامي، تزكية الوارد عبر أسلمته، لعنة الوارد عبر نبذه وتكفيره). وعلّة هذا الفرز الديني اعتداؤه على طبيعة الإنسان وإضعاف قدرته على التكييف مع الواقع وتحدّياته؛ بحيث إنّه (يعيش ولا-يعيش في الواقع، ينتمي ولا-ينتمي) وهو حال العربيّ في التيه المعاصر، فما نفع استيراد حضارة وإفراغها من مضامينها؟ ما نفع استيراد آلة على غاية الشكل والمنظر لا على غاية الانتفاع من فاعليتها؟ وكيف تنبذ أشياء ومضامين لأنّ مسمّياتها المعاصرة متشابهة مع مسمّيات ملعونة تاريخيّاً؟ والمسألة: إنّ هذا الفرز الفكريّ لم يكن طواعيّة أو اختياراً إراديّاً، إنّما اضطرارٌ بعد تفوّق حضاري أفضى إلى انتشار مصطلحاته وما يتبعها من إجراءات مفروضة على الأطراف لأنّه من المركز الحضاريّ، ولأنّ الأطراف تابعون لهذا الفلك ولا فكاك منه ومن تأثيراته؛ فما تشاع صناعات أيّ حضارة ومصطلحاتها إلاّ لأنها ذات تأثيرات تتغلّب فيها الإيجابيّات على السلبيات، ومتى ما انقلبت الغلبة باتّجاه الأثر السلبي تراجعت تلقائيّاً مصطلحات تلك الحضارة ومصنوعاتها وانزوت كمادة تاريخيّة.
وعودة إلى الحالات التي يفرزها التفتيش الديني فإنّ الحالة الأولى هي إيجاد بديل تاريخيّ-ديني يُفضي إلى إزاحة المصطلح والإجراء الوارد معه بحجّة وجود بديل إسلامي أصيل يُغني عن الدخيل المستورد: لماذا الضريبة مثلاً ولدينا الزكاة؟ هذا زعمهم!! والصحيح شتّان بينهما؛ فمن المستفيد من المزاوجة بين الاقتطاع الضريبي المدني وبين الزكاة أو الخُمس الديني؟ وكيف تستساغ المزاوجة بين اقتصادات ريعيّة باقتصادات صناعيّة وشركاتيّة، ولمصلحة مَنْ لا تُسنّ ضرائب تصاعديّة على الاستثمارات والدخول العالية والأراضي البيضاء والعقارات والاكتفاء بالبديل!!
والحالة الثانية: (أسلمة المصطلحات) فإنّها متمثّلة بقبول المصطلح الوارد وإجراءاته (طوعاً أو غصباً) والتعامل معه تحت حجّة توافقه مع الضوابط الشرعيّة، وأنّ المدوّنة التاريخيّة الدينيّة سبقت الصانع الغربي في إيجاد هذا المصطلح، وإن كان تحت مسمّى آخر، ومثالاً على ذلك ظنّهم التوافقي بين منظومة الديمقراطية ومبدأ الشورى، وقد قدّمت طعوناً بهذا الظنّ في مقال(حرمة السلم الأهلي-الثقافيّة العدد 407).
أمّا الحالة الثالثة: (نبذ المصطلح وتكفير أتباعه) فتقضى إلى نبذ أيّ ممارسات سياسيّة تابعة إلى فضاء ذاك المصطلح وتجريم فاعلها تحت ذريعة التشابه باصطلاحات ملعونة في الفهم الإنساني المحدود للمتن المقدّس؛ وهو ما يقع في اللبس الديني المتعمّد لمصطلحي (اليمين واليسار) المعاصرين في نطاقات السياسة وتداوليّات السلطة التنفيذيّة، وإسقاط دلالة: (أهل اليمين والشمال الديني) عليهما؛ والمسألة: أنّ مضامين المصطلح المنبوذ تهدّد مكتسبات المنتفعين من النظام السياسي وأعوانه من طبقة دينيّة واقتصاديّة فاسدة: هكذا يتحوّل اليسار السياسي إلى (مفهوم أهل الشمال في المتن القرآني، وتحت تأثيرات الفهم الإنساني)، ويتمّ الخلط بين السياسة والدين لمصلحة إقصاء أيّ يسار سياسي يحتج وينتقد من السلطة السياسيّة والدينيّة ونفوذ القطاع الأهلي والرأسمالي.
وهذا الإسقاط الديني لنبذ مصطلح اليسار يقتضي مباركة اليمين السياسي الحاكم والطبقة الدينيّة القريبة منه، بوصفهم متطابقين مع (أهل اليمين كما هم في المتن القرآني)؛ وشيءٌ من هذا يكشّف الأسباب التي يتحصّن فيها الساسة العرب التشريعيين والتنفيذيين ويعارضون علمنة الأنظمة السياسيّة خشية لفقدان الشرعيّة الممنوحة لهم من قبل الفرز الديني الذي يصبّ في موردهم، فكلّ سلطة عربيّة ذات شرعيّة دينيّة، ولا يوجد نظام عربيّ لم يخلط ويستغل الديني من أجل شرعنة وجوده في الأوقات التي يشعر بها بخطرٍ يُهدّد وجوده، ولذلك فإنّ كلّ يسار كاشفٍ لهذا التزوير التاريخي السياسي يكون منبوذاً وملعوناً تحت هكذا أنظمة تحارب الفكر اليساري فوق السياسي برهبوت التكفير. وكم مرّة يستعيذون بوجهك إن عرفوا أنّك يساريّاً، وكم مرّة باركوا السلطة أنّها على اليمين، فإلى أيّ منطق يحتكمون!!
(ج)
لم يظهر اليسار السياسي -بحاله كما هو عليه اليوم- حيث أصدّره على أنّه (فوق السياسة والخطاب السياسي) بوصفه عملاً مدنيّاً تحت مظلّة أهليّة، وليس تحت مظلّة برلمانيّة سياسيّة، كما حال نشوئه مسمّاه الأوّل مصادفة في البرلمان الفرنسي عشيّات الثورة الفرنسيّة 1789، إذ جلس ممثّلو الشعب عن يسار الملك لويس السادس عشر مطالبين بالعموميّة وبالعلمانيّة، وجلس ممثّلي الإقطاع ورجال الدين عن يمينه، لكنّ المصطلح والممارسة مرّت بتحوّلات عدّة: فمن مفهوم ممثّل الشعب برلمانيّاً، إلى مفهوم الحركات الثوريّة الشيوعيّة والاشتراكية، إلى مفهوم المعارضة التداوليّة، حيث يكون اليمين رمز الحكومة، واليسار رمز المعارضة، وأخيراً كما نراه اليوم ممثّلاً للإنسان تحت مظّلة الإنسان نفسه، ومدافعاً عن قضايا فوق سياسيّة والمطالبة بحقوق الإنسان، والمعارض دائماً للحروب والنزاعات المسلّحة، عبر النقد العلني والاحتجاج السلمي؛ لذلك لا يتوقّف نقد اليسار على عثرات برامج الحكومة، بل يتعدّاها لانتقاد المعارضة السياسيّة وإقطاعيّات القطاع الخاص والشركات، وكلّ ممارسة يظنّها تؤثّر أو أنّها سببٌ في اضطهاد الإنسان. لذلك لا يصحّ عندي الخلط بين مفهوم اليسار ومفهوم المعارضة، وهذا التفريق ضروري: حيث إنّ المعارضة جزءاً من التداولية التنفيذيّة للسلطة وبرامجها مبنيّة على أساس السلطة، إن كانت المعارضة مشرّعة أو غير مشرّعة، بينما اليسار فوق السياسة والخطاب السياسي.
ليس اليسار مع الحكومة، ليس اليسار مع المعارضة، فكلاهما جزء من النظام التداولي، وبرامجهما أيّا كانت اقتصاديّة اجتماعيّة فإنّ من طبيعتها أنّ لا تحقّق العدالة الاجتماعية بنسبة كاملة، وهذا الذي يجعل اليسار حيّاً وضرورياً أن يكون فوق السياسة، لأجل ممارسة قوّة ضغط باتّجاه تحسين نسب العدالة الاجتماعيّة إلى معدّلات عالية لصالح الإنسان.
(د)
يعترضون على اليسارية فوق السياسيّة -اليوم- خلوّ خطابها من البديل السياسي: (لطالما لا يملك اليسار بديلاً، فعليه أن يتوقّف عن احتجاجه ونقده: هذا قولهم)؛ وهذا الخلو -تحديداً- يجعل اليساري فوق طبيعة الخطاب السياسي، وهذا ما يفرّقه عن المعارض. والسؤال المضاد لمنطق المعترضين على خلوّ اليسار من الخطاب السياسي فمحلّه التعارض بين السياسي والإنساني وضرورة وجودهما معاً مفصولين: هذا للإنتاج والإدارة وهذا للتقويم وزيادة المطالب الإنسانيّة؛ ولذلك يُعزى إلى تحوّلات الحركات اليسارية وخروجها من العمل السياسي إلى مافوق السياسي وخطاباته حيث الإنسان وحقوقه، أنّها استطاعت أن تشكّل قوى ضغط عالميّة دخلت في كلّ دول العالم وإن كانت بنسب متفاوتة، وأدّت إلى هزيمة الاستبداد في أنحاء عدّة من دول العالم عبر قضايا: (محاربة التفرقة العنصريّة والتمييز الجنسي، إبعاد رجال الدين عن مراكز صناعة القرار السياسي، حقوق المساواة، الطفل، المرأة، حقوق الرأي، رفع نسب العدالة الاجتماعيّة عبر إعادة التوزيع العادل للثروات، مبدأ تعدّد الفرص وتداوليّاتها)؛ وما كان ذلك ليتحقّق إلاّ بوصف اليسار ليس سلطة ولا ينبغي له، فكلّ يسار تحوّل إلى سلطة تنازل عن يساريّته؛ لأنّ اليسارَ حيٌّ في النقد، حيٌّ في الاحتجاج والممارسات المدنيّة على كلّ ما يظنّه ضدّ حقوق الإنسان.
YASER.HEJAZI@GMAIL.COM
جدة