القلم والقدرة الكتابية موهبة ربانية وهبها الله في بعض خلقه، وزادها نماءً في أشخاص هم قدروها وشكروا الله عليها {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.. فالكتابة وحركة القلم بين الأصابع فن إبداعي يرتقي به فرد إلى سماء عالية، ويتعثر آخر ويكون أقل منه شيئاً بسيطاً، ويأتي ثالث ويكون في مستوى سطح البحر، ولكلٍ منهم مذاقه الخاص، ولا يغني أحدٌ عن آخر..! وكما أقول دائماً: إن الكتابة بجميع أصنافها إبداع، وإن اختلفت أجناسها..
أهداني الصديق عادل القرين كتابه الأول «سيمفونية الكلمة» فور صدوره، عن دار الطبعة الأولى 1430هـ - 2009م، وكانت الفرحة والحماس يُحيطان به ويغمرانه، ولا ألومه في ذلك فقد كانت الـ»سيمفونية» تستحق كل ذلك الحماس..! كيف لا وقد تضمنت آراء وأقوال ومرئيات وتقديم وإضاءة نخبة لهم وزنهم في الوسط الثقافي والأدبي الأحسائي، وأن أسماءهم لامعة في سماء الإبداع كالشاعر الصحيح، ومنهم من يهتم في تأصيل الثقافة ويحاول نشرها وغرسها في أرضنا التي هي أرضٌ خصبة قابلة للزراعة كالمهندس الأديب الشايب، ومنهم من له باع في مجال التربية والتعليم كالأستاذ حسين الخميس، ومنهم من له نفوذ ونشاط اجتماعي كالناشط الاجتماعي والكاتب الأستاذ سلمان الحجي، ومنهم من هو صديق قديم له كالأستاذ النعمة.. وكل هذا يضعنا في حرج شديد حول الكتابة عن هذا المولود الجديد، ومع ذلك وبعيداً عن المجاملة والتملق وكما هو أنا فإن «سيمفونية الكلمة» إضافة إلى المكتبة الأحسائية وأن فيها أمكنة فارغة شغلها هذا الكتاب، فهو كتاب يحوي تنوعاً جميلاً في الطرح من الكتابة ففيه الخاطرة وأغلبه هي والمقالة والتقرير والمعلومة هو كالربيع كما قال الشاعر الصحيح: (... الأستاذ عادل قدم لنا في هذا الكتاب ربيعاً من الخواطر الناضجة تتنوع أزهاره وأطياره وثماره، وتهدي إلى القاطفين والصيادين والحاصدين في واحاته كل ما يطمحون إليه من أحلام الترويح عن النفس والإفادة المعنوية والشبع الروحي...) ص 6.
وقد تناول القرين موضوعاته بأسلوب وبكتابة تلقائية وعفوية وهذا يسجل له ويحسب له إيجابياً.
«سيمفونية الكلمة» كتاب انتثرت موضوعاته في 126 صفحة من القطع المتوسط والتي ازدانت بالألوان والإخراج الممتاز ونوعية الورق الفاخرة، وهذا أضاف إليه رونقاً وجمالاً فوق سحرِ حروفه وهندسة كلماته، وهنا أتذكر قول القرين نفسه: (إن نصف المال نظرة).! وهذا صحيح، ولكن أختلف معه فيما يختص ويتعلق بالكتابات الإبداعية والأدبية، وأن الـ»سيمفونية» كلها نظرة من حيث الإخراج والحروف والمضمون والرسالة..
الـ»سيمفونية» يتكون من عدة عناوين قد ترتبط فيما بينها كمضمون واحد، وقد تكون بعيدة عنه وتشذ أحياناً، وهذه العناوين: ربيع من الخواطر الناضجة / ترانيم النخلة / تراقص الأوراق / وقفة أبوية / حنين الوجدان / تذكر مع فنجان قهوة / انحناء غصن / هدية بدون مقابل / دلل طفلك / سيمفونية البحر الهجري / رسالة من حمامة / حكاية العصفور المهاجر / شمعة تضيء / قطرة ماء / الضمير المستر / حكاية بألف دينار /عنادل الرفعة / في المقابر يكرم المبدعون / وريقات ريحانة الجنة / راية ترفرف / غذاء الملكة / قطوف دانية / شفق يغيب وينتحر / إكليل زهور فوق رأسي / وردة تنعى / رياحين من الرفعة /خيال تحت جناحي فراشة / سراج لن ينطفئ / لفيفات الربيع، وكذلك قرار هام من الإدارة والذي جاء فيه: (إخواني الأعزاء..
لقد جفت الأقلام ولم نرَ من إبداعكم شيئاً!
لماذا هذا الجفاء تجاه أنفسكم ؟
فأنتم مبدعون في بيتكم وأسرتكم ومجتمعكم و.... إلخ.
لماذا لا تكتبون، أو تنقلون لنا جميعاً موضوعاً أو مقالةً في الأسرة، أو في التربية، أو في الحب، أو في خدمة الآخرين على جميع الأصعدة؟
هل أنتم شعراء ؟
أم هل أنتم نُقاد ؟
أم هل أنتم قُراء جيدون ؟
أم هل أنتم متصفحون متمكنون على ( الإنترنت ) ؟
أم.. أم.. أم..
إذاً أنتم مكسبنا نحن جميعاً، بما ذكرت سابقاً بتساؤلاتي لكم.
فأنا على يقين بأنكم تمتلكون إحداها على الأقل، إذا ما كنتم
تمتلكونها.
إذاً ما المانع من نقلكم وكتابتكم، دعوني أستفيد منكم وتستفيدون مني لم لا !
قد ننير معاً طريق الآخرين، ربما الأجيال القادمة، وذلك بتكاتفنا جميعاً. أخيراً..
أترقب إبداعكم بفارق الصبر، كي تحوزوا على وسام الإبداع بدعاء الوالدين، أو بفخر الزوجة، والأبناء، أو بغبطة زميل، أو تشجيع صديق، أو بابتسامة رئيس، أو بإطراء مدير.
فإن لم تحصلوا على أي شيء فكونوا على ثقة تامة ويقين أنكم سوف تدخلون جنة الفردوس بإذن الله تعالى، بخدمتكم لل آخرين كما قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بما معنى الحديث الشريف: «خير الناس أنفعهم للناس») ص 12 ـ121.
وختم سيمفونيته بما يشبه الشكر والعرفان لمن وقفوا معه خلف هذا العمل وجاء ذلك تحت عنوان ( شيء أشبه بالخاتمة ).
إن أغلب نصوص الكتاب يسيطر عليها أسلوب الخاطرة، وإن رافقتها بعض الكتابات الأخرى، كما أن بعض النصوص يخلط فيها بين أسلوب الخاطرة والمقال أو التقرير.
فن الخاطرة، فن أدبي سردي لا تقيده قوانين وآليات معينة بل للكاتب حرية الأسلوب والتعبير، وهذا ما يراه عددٌ من النقاد والأدباء، ويختلف معهم آخرون، حيث يرون أن ليس هنالك فن أدبي دون قيود أو قواعد، ويرون ذلك نوعاً من العبث والفوضوية، وكلا الفرقين له مبرراته، وأنا أنضم إلى الفريق الأول وإلى الفريق الآخر معاً وإن كان اتجاهي وميولي يغلب عليه رأي الفريق الأول.. فالخاطرة فن سردي يغلب عليه اللغة الشاعرية والوجدانية - كما في سيمفونية القرين هذه - وأنها أحاسيس ومشاعر تحوم وتجول في الخاطر، ويفرغها من هي بخاطره على الورق وتظهر لنا كالفاكهة اليانعة تارة، وفي تارة أخرى تكون المرارة مذاقها، وقد تختلف درجة المرارة فيها كونها لم تصل إلى درجة النضج الحقيقية، وإن تظاهرت به ملامحها، ولكن خاطرة القرين وصلت ألى النضج أو قريبة جداً منه، وإن شذ القليل منها، وهذا شيء طبيعي في الأدب والأعمال الإبداعية، فليس كل المواليد تولد في أحسن تقويم..!
«سيمفونية الكلمة» تحمل بين موضوعاتها هموم عامة وخاصة، ورغم أنها كذلك إلا أن القرين شكلها بحروف زاهية ونال عليها الإعجاب وصفقت له أيادي عديدة ومنها أيادي نحبة من المثقفين والأدباء ودونوا ما نتج من حرارة تصفيقهم في مقطوعات نثروها في هذه السيمفونية.
القرين يمتلك حساً مرهفاً نابع من قوة هائلة ومتأججة في داخله، ويقابل هذا الحس المرهف قلم يمتلك قدرة في ترجمة هذه الأحاسيس إلى حروفٍ تشكل كلمات وجمل ومقطوعات تُصنف نفسها بأنها خواطر وهي حقاً كذلك.. فقلم القرين عميق في معنى كلماته وأبعاد مغازي خواطره.!
«سيمفونية الكلمة» تضم نصوصاً إبداعية رائعة تنم عن ثقافة كبرى وواسعة للقرين، فهو لم يغفل فيها عن أي موضوع هام وله بُعد ومغزى سواء كان ثقافياً أو غيره إلا وتناوله وحاول وعن طريق أسلوبٍ شائقٍ إيصاله إلى الهدف الذي يرمي إليه.
تناول القرين في كتابه هذا عدة موضوعات اجتماعية وتربوية وأخلاقية ووجدانية وعاطفية وفكرية، وكما قال الناشط سلمان الحجي: (.. يقدم لنا وجبات فكرية مغطاة بثوب أدبي مميز) وبشكل رائعٍ يمثل أسلوباً ونهجاً خاصاً به.
عنوان الكتاب «سيمفونية الكلمة» له من البعد الفلسفي أعمقه فلفظة السيمفونية تعني حسب موسوعة (ويكيبيديا): (هي مؤلف موسيقي يتكون من عدة حركات ويكتب عادة من أجل الأوركسترا...) وهي إنجليزية، وترجع هذه اللفظة إلى أصل يوناني قديم وتعني «صوت» بالعربية. وهنا حاول القرين من خلال اختياره هذا العنوان أن يجعل من خواطره أصوات يسمعها ويتغنى بها الآخرون، وموسيقى يتراقص على أنغامها الوالهون ، وهذا مؤشر يدلنا أن القرين ليس بالمثقف العادي والبسيط.. ولعل تنوع فاكهته في هذا المولود تتناسب وفلسفة هذا العنوان الذي زاد من جمال محتواه رغم جمالياته.
المعجم الكتابي للقرين يعطينا ويدلنا أن القرين رجل يمتلك مشاعر وأحاسيس ووجدانيات وهدوء اجتماعي يغبطه عليها وعليه كثيرون.. تعمدت أن لا أستعرض أي نص أو مقطوعة نثرها القرين أو استشهاد ـ سوى ما سبق ـ في سيمفونيته حتى تتشوق إلى هذه الـ «سيمفونية» كما يسال لعابك حينما يغريك الليمون بمنظره ورائحته أو بعض الثمار التي تزيد من إفراز اللعاب في الفم.!!
غلاف الكتاب يشكل منظراً طبيعياً وكأنه يحمل جسراً بل هو كذلك، جسرٌ يوصلك من القصر إلى ربوع جنة / حديقة غناء أو العكس، وسواء خرجت من القصر إلى الجنة الحديقة أو رجعت من الحديقة إلى القصر فكلا النهاية جميلة في القصر أو الحديقة.!
«سيمفونية الكلمة» حديقة اقطف منها ما شئت، إن لم تعجبك هذه الثمرة خذ ثمرة أخرى..!
Albatran151@gmail.com
الاحساء