إن العيون هي أشمل وأجمل جهاز يرى به الإنسان الناس، والعيون للرؤية، وما أقسى وأقبح ما رأت هذه العيون من سلوكيات وتصرفات ومشاهدة صنعها الإنسان، تلك السلوكيات والتصرفات والمشاهدة قتلت قدرة العيون على الرؤية. لقد عاشت العيون لتشاهد شياء لا تستطيع التحديق فيها، شاهدت العيون بعض الناس الذين لا يمكن لرؤيتها أن تكتشفهم بسهولة، فهم يتلوّنون بألوان مختلفة، يعرفون كيف يظهرون بالشكل الملائم لكل وجه وفي كل مناسبة. هؤلاء هم الذين يملكون ألف وجه، لا يقولون الحقيقة في معظم الأحايين، لأن داخلهم يؤذيهم عندما يطلقون الحقيقة. لقد استطاعت العيون النظر إلى تلك المشاهد، بل جرؤت على النظر لعشقها لتلك المشاهد.
أصبحت العين تحب مشاهدة الزحام، وتحب أن تكون وسط مجموعة من العيون، وهي أصبحت لا تطيق العزلة ولا تسعد بالوحدة، لأنها تحب مشاهدة القسوة والعنف والدم والجراح.
لقد أصبحت العيون اليوم ذات وظائف غير أنها جهاز رؤية أو تحديق. لقد أصبحت (العيون).. تعشق الزنى ومشاهدة الرذائل في حين كانت لا تحب سوى المناظر الجميلة الخضراء والغزلان. وعندما انحرفت وظيفتها فجرت كل شيء في داخل الإنسان. بعض الناس لا يطيقون الظلام، ولا يحسنون الجلوس في مواقعه، ولا يطيقون الاستخفاف بالأشياء التي ترافق الظلام، ويعتبرونه مصدر الاكتئاب ولكن تجدهم حريصين كل الحرص على إدخال خصومهم ومنافسيهم حالة ومواقع الظلام، هؤلاء هم الذين يشعرون بالتعاسة في أحايين كثيرة من حياتهم. مسؤولية تربية العيون ليست سهلة، كما يظن البعض، وليس كل فرد يصلح لأن يتولى هذه المسؤولية، إنها تحتاج إلى مواهب ومبادئ وقيم خاصة، واستعداد معين لا بد أن تتوافر في أي فرد حتى يضطلع بها. وهناك أناس جاهزون لأن يكونوا مسؤولين عن تربية عيون الآخرين وصفاتهم تؤهلهم لهذه المسؤولية الشاقة، نعم صفاتهم تؤلهم لأن يراعوا مسؤولية غيرهم، وهي مسؤولية تحتاج إلى صبر كبير. وهناك فريق يظن أنه قادر على القيام بأعباء هذه المهمة الصعبة فهو غير مؤهل للقيام بها.
إن العيون هي الجهاز الذي ينظر للعاهات والأخطاء والنقائص، وقد تعجب بها وقد لا. وقد تعجب بها ولا يستطيع أي جهاز آخر بالإنسان أن يغيّر رأيها فيما شاهدت مهما كان الأمر، وهذه هي العيون التي ترفض مشاهدة ما رأته العيون الأخرى، وهي العيون الجامدة جداً، وهذه العيون تنفر من ذاتها، وهي العيون المزاجية التي لا يمكن الاعتماد عليها في اللحظات الحرجة. بعض العيون تتخاصم، ولكن خصامها صعب جداً، لا يمكن أن تعود إلى حالاتها الطبيعية، إلا بعد مرور مدة طويلة كافية لنسيان أسباب التخاصم، ولكنها لا تستطيع أن تنسى القسوة.
وهناك عيون غير متسامحة وتحب الخصام وتحب النكد الذي يجلب المتاعب فهي تحرص على مشاهدة تلك المواقف والمناظر التي تحقق لها ذلك. ألا يمكن للعيون أن تفعل شيئاً لكي تنقذ الإنسان المتهم البريء أو لتنقد نفسها من بعض الوقاحات والنذالات والعداونيات التي الهمتها أن تجرؤ على اتهام الإنسان البريء؟
> بل.. تستطيع ذلك!
هذا يتبيّن من تربية تلك العيون على الخير وقول الحق وعدم الكذب أو الافتراء. إن العيون السليمة النظر والناضجة الرؤية قادرة على رفض كل الذنوب والتفاهات والنقائص والعاهات التشوّهات والحماقات والخطايا.
> ألا يمكن للعيون أن تصاب بشيء من النخوة أو الشهامة عندما تشاهد المنكر لتستر عليه؟
> ألا يمكن للعيون أن تُصاب بالعفة النفسية من نشاط ضمير حاملها؟ حتى لا تضخم المنكر ليصل إلى درجة الرذائل.
بعض.. العيون.. عندما تكون في جلسة، تراها تسرق الأضواء، بنظرات هادئة، عفيفة، لا تنظر في أي شيء وفي كل شيء، لا يمكن أن تتحرك في كل اتجاه، ولكنها على أية حال تلفت النظر إليها بسرعة شديدة. إنها العيون الواعية المشرقة.
العيون الهادئة تحب الطبيعة وتلاحظها جيداً، وتلحظ مولد الربيع، وظهور الأزهار والورود والياسمين.
تسعد بالأشجار، تحب العيش على شاطئ البحر، لتسعد بالنسيم العليل، ودفء الشمس الحنون في برد الشتاء. وهناك عيون تعشق مشاهدة العري في كل شيء، وتعجبها الأبواب الموصدة للخير والمفتوحة للشماته، أو التلهي أو التسلي أو التشفي بآلام الآخرين وعاهاتهم ودموعهم وضعفهم. هذه هي العيون التي لا تحسب حساباً للغد على الإطلاق، كل ما يهمها هو أن تعيش لحظتها بكل ما فيها. هذه هي العيون التي لا تحمل أي خوف من ارتكاب الذنب في حق الآخرين، هي نفسها لا تحمل هماً لهموم الآخرين، هي التي تريد أن تكون الأبواب دائماً مفتوحة للشر والألم. هي التي لا تثق في كل من يتعامل معها، أنها تشك في كل رؤية، تعتقد أنها تنظر إليها وتغتابها، وربما تتآمر عليها، وربما تهددها. أنها لا ترى لأنها ليست عيون!
هل يوجد من يملك الرؤية غير جهاز.. العيون.. إنها تلقي بما ترى في الطرقات والأرصفة ومواقع القمائم! كثير من العيون يخفن من أي.. دواء.. وتصاب بالرعب عندما تشاهد المستشفى، ولهذا السبب تهرب العيون من شوارع المستشفيات، وربما كان السبب تجربة قاسية مرت بها، لأنها لا تريد أن تكون في مركز الاهتمام. ولكنها تعشق الوقوف أمام.. [المرآة].. محدقة فيها طويلاً، بارتجاف وضراعة كأنها تناشدها أن تكون جميلة. هذا النوع من العيون الذي تؤرّقه المشاكل البصرية، وتحزن عندما تلامسها الرياح القوية، وتقع في براثن الاكتئاب عندما يصطدم بها الغبار والأتربة، وهذا النوع الذي يحب أن يجرب كل شيء حتى ولو كان لا يناسبها زيادة الخبرة والتجربة. وما أكثر هذه العيون التى يسهل جداً خداعها، وتصدق كل ما تنظر إليه دون تميز أو فحص، والبعض تعمل العكس تأخذ الحيطة ولا تقبل مشاهدة أي منظر.
إن عيون الإنسان هي أداة دلالة! إن عيون الإنسان تجسد تاريخ الإنسان المتحرك!
إن عيون الإنسان ترتجف وتغضب وتتوتر وتخاف وتنفعل وتتشنبح وترفض وتحزن وتقاوم الخير والباطل معاً. كما أنها تعانق وتصافح وتسالم وتؤمن.
>> فأحسنوا تربية عيونكم!
والبعض من الناس يحمل عيوناً لا تحمل احتمالات رؤية، وكأنها مغلقة، وتنظر أعينهم بما تلامسه أصابعهم، فيمارسون الرؤية بأصابعهم ويحكمون على المواقف بملامسة الأصابع. وهذا هو عمى البصيرة والعياذ بالله! هذه العيون التي فقدت الرؤية فلم تشاهد جمال الطبيعة وعبقرية مبدعها.
إن العيون اليقظة الناضجة هي العيون الرائية للعيون المعذبة، وهي القادرة بقدرتها على رؤية العذاب في العيون المعذبة بكل عذابها، وشقائها، تعيش عذابها بكل أحاسيسها، ونظراتها، وصراخها، ودموعها، واستنجادها. لأن العيون هي التي تنقل ما تشاهده من مناظر إلى المخ مباشرة وبالتالي تدخل تلك المشاهدات إلى الذات، ولذلك يتعذب الإنسان برؤيتة للتعذيب والاضطهاد والعنف والدم والدمامات.
إن ذنب العيون لا يعالج إلا بالدين أو الأخلاق أو بالتفكير المنطقي، ولا يعالج بعملية جراحية، ولكن مرض العيون هو الذي يعالج بعملية جراحية. وما أكثر العيون التي تحتاج لعلاج الدين والأخلاق. إن رؤية العيون للمعاناة والإحساس بها والتألم من أجلها تعنى الرحمة في الخلق الإنسان. وأصحاب العيون الحاقدة القاسية هي التي تملأ عيونهم العاهات والأحقاد والطغائن والتفاهات، فلا يروا غيرها، حتى الشمس لا يستطيعوا رؤيتها في الظهيرة.
إذن تؤكد لنا هذه الحالات المختلفة أن العيون في البشر للرؤية والإحساس. وعبقرية العيون أن تحول أقبح الأشياء إلى أجمل الأشياء، أي أن العيون تستطيع تحويل الشيء إلى نقيضه، أي لديها قدرة التزوير، أي تزوير الرؤية. لقد أصبحت العيون اليوم قادرة على.. الزنى.. أكثر من أي وقت مضى، فهي تزني في أي وقت تشاء وفي أي مكان تريد وتزني في أي شيء تريد. وما أسعد العيون التي تعجز عن الرؤية في هذا العصر المليء بالتشوّهات والفجع والآلام والدمامات والذنوب والخطايا، والتي تجيء بلا حساب ولا أوان. إن الاستعمال لا يكون إلا بعد وجود الشيء، إلا العيون قد تجدها ضمن أجهزة الإنسان ولكنها مصابة.. بالعمي.. وهذا هو.. [عمى البصيرة].. وما أكده القرآن الكريم حين قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج 46. قد تختلف الرؤية من عيون لأخرى، هذه الرؤية المختلفة؟ لماذا نرى هذا جميلاً وذاك دميما؟ لماذا يكون الورد جميلاً في عيوننا دون بقية النباتات الأخرى؟ إنه الإعجاز من الخالق تبارك وتعالى!
الذي جعل من وظائف العيون النظر لمخلوقاته للتعمق في معرفة معجزاته سبحانه وتعالى فقال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} سورة الغاشية 20. لهذا كانت العيون من أرقى الأجهزة البشرية التي تقدر على النظر والتعمّق في مشاهدة مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
>> فأحسنوا تربية عيونكم!
لهذا الإعجاز الرباني العظيم لم يستطع الإنسان تحديد مقاييس الجمال والدمامة أو القبح، وهذه من نعم المولى تبارك وتعالى. إن رؤيتنا للأشياء وحكمنا عليها واحتياجنا إليها يجعلنا نحن من نضع المقاييس وهذا سبب الاختلاف في تحديدها. فالإنسان يجب الجمال بطبعه البشري ويحب أن يمارسه، ويسعد به لدرجة كبيرة، ويقاتل من أجله بحياته وكرامته وشرفه ولعل ما قاله الشعراء في هذا المجال خير دليل. وما أكثر القصص التي عرفناها وتلقنها من حياة العرب والحب الجنوني مثل قصة مجنون ليلى، وجميل بثينة وحب عنتر وعبلة وغيرهم كثيراً.
والعيون هي مركز الشر في الذات البشرية فهي الدافع الأول للإقدام على الشر فهي الجهاز الذي يحسن كل الأشياء للإنسان. فالبعض من الناس تحب عيونه النظر إلى عمليات الفواحش والرذائل الأخلاقية، فعيناه تحترقان من أجل ذلك، وضميره لا يتعذب من أجل ذلك، بل يسير في طريق الشهوات والملذات، ويفعل كل أخطائه وتلوثاته وذنوبه دون أدنى رادع. ولذلك نهى الشارع الإسلامي النظر إلى مواقع الملذات، وما يثير الشهوات في الذات البشرية فقال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} سورة النور 31.
إن كل شيء يتغيّر ويتخطى صفاته ومستوياته إذا تغيّرت صورته الأساسية في بؤرة العيون، وهذا ما يقلب الحقيقة إلى باطل والباطل إلى حقيقة. فالعيون هي التي تغذى العقل بالمعلومات ليفكر ويقول رأيه في كل شيء بعد صدور الأوامر إليه من العيون.
إن الأسباب يمكن أن تفهم أو أن تعقل بعد نظر العيون إليها وتغذية العقل بها ثم تفسر. ولو لم نكن قادرين على فهم وتفسير الأشياء لما استطعنا أن نعقلها. إن كل شيء يمكن أن تنظر إليه العيون وتفهمه وتفسره وتعقله إلا.. الموت.. لم تستطع أي عيون أو عقل أو فكر أو أي جهاز بشري أن يعرف كل أسرار وخبايا وماهية الموت. وسبحانه الله العظيم العالم العليم!
إن مما رسة الإنسان تجرأ إلى النظر بجسارة إلى داخل نفسه، ويشعر بمدى الخطر المحدق به بسبب أخطائه وتجاوزاته على نفسه وعلى الآخرين. إن أي إنسان عاقل رشيد يجرؤ على محاسبة نفسه والنظر إلى داخلها بلا أغطية أو حواجز أو حساسيات فسوف يرى الشيء الغريب والعجيب من أمر نفسه، وبعدها لن تجرؤ عيناه على مشاهدة والنظر إلى أخطاء وعيون ونواقض وقبائح الآخرين، فهو أولى بنفسه عن غيرها. وما أجمل مقولة الفارون عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).
>> فأحسنوا تربية عيونكم!.
إن العيون الفاسدة والحاقدة والحاسدة هي التي لا ترى سوى الشر والتشوّهات والدمامات، ولذلك فهي فاسدة وحاقدة وحاسدة لكل عيون ترى الخير. إن العيون الواعية السليمة الصحيحة هي التي ترى الخير والجمال والفضيلة والأمل المشرق، وإذا نظرت وشاهدت منكراً تعمل على سرعة إزالته بهدوء بالتعامل مع.. [الستر].. وتخفى كل عناصر الفضيحة والشر. وكن جميلاً تر الوجود جميلا.
إن التمرد على رؤية الشر جميلاً لهو تمرد على أضخم عناصر العيون الحاقدة والحاسدة والناقمة على المجتمع.
>> فأحسنوا تربية عيونكم! على النظر إلى الخير والفضائل والآمال.
أديب وكاتب سعودي
Faranbakka@yahoo.co.uk
مكة المكرمة