ودعت صديقتي (منيرة عبدالرحمن الخليفي) الدنيا، وكانت في تمام صحتها لولا مرض ألمّ بها مؤخراً أحكم قبضته عليها ونقلها من دار زائلة إلى دار دائمة!!
ودعتنا (منيرة) وهي في أجمل فترات العمر، ذهبت وتركتني في فجيعتي وعدم تصديق ما حدث، يعتصرني الألم ويلوكني الأسى فيلفظني كومة من الوجع!!
لم تبرح مخيلتي منذ سماعي بالخبر وحتى هذه اللحظة، ولا إخالها تفارقني وأنا أسترجع كل حين رسائل جوالها!!
فأجدني - بألمي ولوعتي - أرسل إليها رسائل لهفة واشتياق!! وأستمر أبعث لها تهنئة العيد كالمعتاد إذا حل!!
لا تلوموني على حزني وعدم تصديقي، على الرغم من مراسم العزاء وتأكيد الجموع والكتابة بالصحف! فاللهم ارحم ضعفي وتهاوي صبري!! اللهم لا اعتراض على قدرك، ولكنها نفثات حرى تصدر عن كبد موجوعة.
تركت - منيرة - الدنيا بصراعاتها وأحقاد ساكنيها ومؤامراتهم ونوازع خيرهم وشرهم!!
دعوني أستعيد ذكرياتي معها حين نغرق - أنا وإياها - بالضحك لما نأتي على ذكر (المشراق)! والمشراق هو المكان المشمس صباحاً الذي يجتمع فيه الشيوخ والعجائز يتبادلون أطراف الحديث، ويشتكون لبعضهم من أمراض الشيخوخة وعقوق الأبناء، لو كنت - لطول أملي - أتوقع أن يمتد بنا العمر، فنجلس - أنا وهي - بالمشراق نحكي عن أحوال التربية والتعليم بعد أربعين سنة من الآن، وننتقد الأوضاع التربوية والتعليمية وسوء الأبناء مثلما اشتكى الجيل الماضي من أحوال جيلنا الحالي!!
وما كنت لدينا حين نشرق بالبكاء عندما نتذكر نشأتنا دون وجود والدٍ حنونٍ كبقية البنات اللاتي يرفلن بدلال آبائهن!! والحق إننا قد ارتشفنا من حنان الأم وعطفها الكثير والوفير. وكانت منيرة الوحيدة من البنات لوالديها، حيث عاشت وسط إخوان ذكور، فاكتسبت منهم قوة الشخصية والعقل والحوار الرصين، فلم يسمع عنها دخولها في نقاشاتٍ تافهة، حيث تترفع عن الصغائر، فتجبر من يراها على احترامها بهدوئها وابتسامتها الصادقة وجديتها في العمل، إذ كانت معلمة حريصة على درسها، فحين تمر على قاعة الدرس الذي تشرح فيه لا تكاد تسمع إلا صوتها بنبراته الهادئة وطبقاته المتفاوتة عدا عن أسلوب الشرح المميز الذي تخرج بعده الطالبة دون الرجوع للكتاب!
وكانت إلى جانب حبها للنظام وقدرتها الفائقة على ضبط فصل يموج بالطالبات في أشد مراحل المراهقة وأعتاها، لديها سعة صدر وحلم عجيب، فكنا - نحن زميلاتها - بحكم عملنا في مدارس الحرس الوطني نتندر عليها بإطلاق أسماء بعض ضباط الحرس الوطني المشهورين بالانضباط، وكانت تقابل ذلك بابتسامة وادعة تخفي خلفها مشاعر رقيقة لا تبديها إلا لمن تثق فيه وتقتنع به، ولديها فلسفة في ذلك، إذ ترى أن إظهار العاطفة يوهن الإنسان فيبدو ضعيفاً، وقد لا ينال الاحترام المطلوب أو يتعرض للاستخفاف بمشاعره!
وكنا حين نجتمع على مائدة الإفطار، لا أراها إلا قانعة بالأكل، زاهدة فيه، تكتفي بتفاحة وكوب من (النسكافيه) على اعتبار أن مربيتها الأمريكية عودتها على ذلك، وكنا نبتسم بمكر لعلمنا أن مربيتها هي والدتها؛ سيدة فاضلة عاشت في البكيرية ردحاً من الزمن، قامت بتربيتها وتعليمها، مما كان له الأثر في شخصيتها وانعكاسه على تصرفاتها حين كبرت، وتزوجت، وأنجبت، ولم تنسَ قط حق والدتها عليها والبر بها، فكانت تزورها بعد انصرافها من عملها كل يوم، فتطمئن عليها قبل اطمئنانها على أولادها، ومن ثم تذهب إلى منزلها تؤدي دورها زوجةً مخلصةً، وأماً مربيةً، وصديقةً رائعةً للجميع!!
ولكوني وإياها نشترك في حب مدينتنا الحبيبة (البكيرية)، فإن المصطلحات الموغلة في القِدَم تميز حديثنا معاً، ولا تعيق استرسالنا بالكلام، بل نجد متعة في الحديث بلهجة قصيمية نكسر فيها ما قبل الحرف الأخير من الكلمة ونسقط عمداً الألف التي تتبع الهاء في التأنيث!!
لم أكن قط أتوقع أن أسرد بعضاً من سيرة صديقتي الحبيبة، لولا أنني أدرك - على الرغم من عدم استيعابي لوفاتها - أنها لن تقرأ هذا المقال، ولن تحتج أو تعترض كبقية المقالات التي تهاتفني فيها مؤازرة أو معارضة، وقد تسليني وترفع من معنوياتي بقولها: (اشتركنا في (الجزيرة) لنقرأ مقالاتك)، ولم تعلم هذه الإنسانة العظيمة أنني ما أن أبدأ في كتابة مقال، إلا وأستحضرها في ذهني، وأكتب وأنا أردد: (تُرى ما رأي منيرة بهذه العبارة؟!)
والآن - يا غالية - مَنْ سأستشعر مثوله أمامي وأنا أكتب مقالاتي؟!
أدرك يقيناً أن رسالتك التي أوكلها لكِ ربكِ قد انتهت، وحين تنتهي رسالتنا سنلحق بك، وهكذا قضى الله، ولا راد لقضائه وإرادته.
أيتها الفقيدة.. ليتني أُصِدِّق رحيلك لأرتاح وأهدأ، وتجف المآقي وتعود للأشياء لونها ونكهتها التي فُقدت بفقدك...
كل شيء يقول إنك لن تعودي!! أدرك ذلك، لكنك أبداً ستبقين ماثلة أمامي بشموخك وبهائك.. وسألقي عليك السلام وتحية الصباح يومياً كالمعتاد، ولكن عند مروري بجانب مقبرة النسيم، طريق ذهابي وعودتي من عملي، مثلما قد اعتدتُ أن ألقي التحية على والدتي - رحمها الله - كل صباح... وما زال الفقد يتجدد!!