كثر الحديث مؤخراً عن دعوات الجهاد، إذ لا تكاد تكون هناك حرب في أي بقعة من بقع المعمورة، حتى تتنادى فئة بعينها لحث الشباب على الجهاد، وهنا نعني أبناء الآخرين، لا أبناء دعاة الجهاد، فأبناؤهم في مأمن، ولا يمكن أن يسمحوا لهم بالجهاد، حتى لو أراد الأبناء ذلك، ناهيك عن أن يحثوهم عليه، وعلينا أن نعرف أنه، ومنذ بدء دعوات الجهاد، وحتى هذه اللحظة، لم تسجل حالة جهاد واحدة لابن من أبناء دعاة الجهاد، أو حتى من أقربائهم حتى الدرجة العاشرة، ناهيك عن أن تسجل حالة وفاة، وعلى من لديه أي معلومات خلاف ذلك أن يزودنا بها مأجورا، حتى يتسنى لنا الاعتذار، ولا أستطيع أن استوعب أن الناس لا زالت تنخدع بهؤلاء الدعاة، وذلك على الرغم من كل الدلائل التي تشير إلى أنهم لا يكتفون باستثناء أنفسهم من شرف الشهادة في سبيل الله، بل يستثنون من يعز عليهم، وهذا لعمري أمر يستعصي على الفهم .
لقد كنت شاهدا، وعن قرب لحالات كثيرة من المآسي التي تسبب بها دعاة الجهاد من القعدة ، فقد رأيت آباء، وأمهات مكلومين بفلذات أكبادهم، ولا يمكن أن أنسى ذلك الشيخ الذي تخضبت لحيته بالدموع، بعد أن فقد ابنه الوحيد في العراق، وكان من هول الصدمة يمني النفس برؤية فلذة كبده مرة أخرى، وكان قبل ذلك قد فقد زوجته التي ماتت كمدا على فراق الابن، كما رأيت أسرا تم تشتيتها، وتدمير مستقبلها، وسمعت قصصا كثيرة عن أرامل مات أزواجهن في ريعان الشباب، وتركوهن لمصيرهن، مع أطفالهن يشتكين الفقر، والحاجة، إضافة إلى اليتم، ولا يكمل الحديث عن هذه المآسي دون المرور على حالات كثير من شبابنا الذين نجوا من الموت . هذا، ولكنهم عادوا إلينا بشتى أنواع الأمراض النفسية، والإعاقات البدنية، بل إن بعضهم وصل مرحلة الجنون .
وما يستعصي على الفهم هو أن هؤلاء الدعاة القعدة لا يرعوون، فلا تكاد تشتعل فتنة في أي بلد، ويكون هناك حاجة لمقاتلين، حتى يتنادوا، ويعملوا بلا كلل، ولا ملل للإيقاع بالشباب في مصيدة الحرب بالوكالة، وكأنهم يجندون مرتزقة للقتال بالنيابة عن الآخرين، ولنا في الحالة السورية خير مثال، فهم يبذلون كل جهد ممكن لتجنيد فلذات أكبادنا، ويهاجمون بكل شراسة من يقف في طريقهم، والغريب أن دعاة الجهاد هم ذات الأسماء المعروفة، منذ عدة عقود، التي لم تحدث نفسها بالجهاد، بل زادت ثرواتها، وتغير أسلوب حياتها، وأصبحت تقضي إجازاتها في البلاد السياحية، في أوروبا، وآسيا تحديدا، حيث الماء، والخضرة، والوجه الحسن، وسنفصل في هذا في مقال مستقل.