على مسافة ثلاثمائة وخمسين كيلومتر جنوب ستوكهولم، تقع قرية صغيرة اسمها «فمربي» التي عاشت فيها آستريد ليندجرين طفولتها ومراهقتها، ففي كوخ صغير على النمط السويدي أقامت حتى التاسعة، وسط ريف مذهل، ويجاوره بيت أكبر، لونه أصفر، هو المنزل الآخر الذي أكملت فيه طفولتها قبل أن تنتقل إلى ستوكهولم، والذي بنته عائلتها بعد أن أصبحت أكثر غنى عما قبل.
في هذه المنطقة، وما يحيط بها، استثمرت الحكومة السويدية شهرة ليندجرين عالميا، وجعلت منزلها مزاراً، لمن يريد أن يتأمل هذا الكوخ الصغير الذي انطلقت منه مخيلة هذه الحكواتية الرائعة، والأشجار العالية حوله، التي كانت تتسلقها بشقاوة، أو حافة القرميد العالية وهي تمشي فوقها بجرأة وتهوّر، وكأنما تريد الطيران كشخصياتها المتمردة، كما أقامت الحكومة قرب هذا المنزل، أو الكوخ الصغير، متحفا حديثاً، يتناول صورها وأدواتها وشخصياتها، وهو منظم بطريقة حديثة، باستخدام سماعات «الهيدفون» المبرمج بلغات عدة، ومن خلال تتبع تسلسلي يمكن للزائر متابعة قصتها العائلية الجميلة، بما فيها من حزن وهروب وتنقل من مكان إلى آخر.
والأجمل في تلك المنطقة الشاسعة، هو عالم ليندجرين القصصي، الذي جعله السويديون على نمط ديزني، لكنه يخص شخصيات ليندجرين الشهيرة في قصصها المكتوبة للأطفال: بيبي، وإيميلي، وراسموس وغيرهم.
فقد يقابلك راسموس خارجا من الكوخ الذي لجأ إليه حين هرب من بيت الأسرة، وترى الكوخ تماماً كما صنعته مخيلة ليندجرين، والأدوات العتيقة داخل الكوخ، ولعل المفاجأة أن تدخل أحد الأكواخ في عالم ليندجرين الشاسع، وقد جذبك إليها صوت الساكسفون الصادر منها، فتفاجأ بالعائلة نفسها، وإيميلي تماماً كما في القصة بفستانها الوردي، أو هي آستريد نفسها، وهي تجلس في حضن إحداهن، بينما تحتفل العائلة مع ضيوفها بالغناء والرقص، وفي الوسط رجل بقبعة يراقص امرأة بفستان سويدي تقليدي، وهم يغنون بصخب ومرح، وصوت الأم يعلو بالغناء، وفي يدها كرة صوف تنسج منها قطعة جميلة، وهكذا تتوزع الأكواخ والشخصيات كما جاءت في قصصها، على مساحة واسعة من الحقل، يعمل فيه أكثر من ثلاثين رجلا وامرأة، كمرشدين سياحيين داخل عالم ليندجرين.
إن هذا لهو الاستثمار الحقيقي للكاتب، وهو التكريم الأمثل له، في الوقت ذاته، فزيارة ما يقارب نصف مليون سائح سنوياً إلى عالم ليندجرين، هو إنجاز رائع للسويد، وللثقافة السويدية، حتى وإن بدا الرقم صغيرا أمام آلة ديزني الإمريكية، لكنه يصنع ثقافة خاصة، ونكهة خاصة للسويد، بعيداً عن إعادة إنتاج ثقافة الغير وأفكارهم.
أفكر أحياناً ماذا لو استفادت هيئة السياحة والآثار من الرواد لدينا، في مجالات الثقافة والآداب والفنون، حتى لو لم تصنع شيئاً ضخماً، لا نحتاج متاحف لامعة، بل مجرد متحف صغير يوثق حياة المبدعين، ماذا لو تبنت الهيئة مع بلدية الطائف مثلا، وأقامت متحفا للموسيقي طارق عبدالحكيم، بجوار بيت الطفولة في الطائف، وماذا لو بادرت بلدية الباحة وأقامت شيئاً مماثلا للقاص والروائي عبدالعزيز مشري، وغيرهم من الرواد المؤثرين في مختلف المجالات!