رمضان جريدي العنزي
الذهاب باتجاه تشجيع الصناعة الوطنية يشبه الذهاب باتجاه حقل الألغام، إذ تخضع الأرض تحت هذا الهاجس إلى توصيفات عجيبة، الطرق فيها غامضة ومضببة، فيها دهاليز، وعتمة، وليس فيها وضوح، ممراتها غير سليمة، وليس فيها أدوات للسلامة أو خراطيم للمياه،
إنني مسكون بخوف قديم يحاصرني منذ الأزل من مشروع تشجيع الصناعة الوطنية الأزلي المزمن، هذا الخوف يندس تحت جلدي وعظمي وسمعي وبصري حتى بدأت لكأني أمارس المزيد من الهروب بحثاً عن الاستعارات والتوريات المنقذة، إن الحديث عن مشهد الصناعة الوطنية شجونها وهمومها وطبائعها وغرائبها وطقوسها تتلبسها العقد المعقدة والكثيفة، إذ مشروع تشجيع الصناعة الوطنية العتيق والطويل والممل ليس بالأمر اليسر والآمن التحدث عنه والدخول في زواياه الضيقة وعالمه المضبب، إن الصناعة الوطنية مشروع وطني عام وعملاق وجدير بالاهتمام، وعناوينه تخضع لردات الفعل التي تصنعها عادة الهزات الكبرى وليست السرديات السرية، لكن ما يمكن قوله وفعله في هذا السياق هو رصد الحالات الطارئة، وأحياناً العامة لمشروع تشجيع الصناعات الوطنية، الذي في كثير من الأزمنة يأخذ شكل الخطوط البيانية التي لا تعرف وجهتها ولا اتجاهاتها، وتكثر فيها علامات التعجب والاستفهامات الكبيرة، إن التخلي عن مشروع تشجيع الصناعات الوطنية، يمنح في كثير من الأحيان الشك والريبة والهاجس الكبير، إن هذا البرنامج فيه الكثير من الوهم والتناقض والتباين ومراثي الحزن، وذلك نتيجة غياب هذا المشروع في السنوات الأخيرة، والتخلي عن دعمه، وفرضه كأمر واقع بقوة القانون الذي جاء به، حفاظاً على هيكل الصناعة الوطنية ومستقبلها وديمومتها، لأنها الشريان الاقتصادي المهم بل الأهم، إن مشروع تشجيع الصناعات الوطنية منذ أن بدأ لم يخضع إلى معيار محدد، إذ هو مشروع واقف عند حافة زمن معين ملتبس، فضلاً عن كونه برنامج ليس له رابط واحد معين، أن الصناعات الوطنية تبحث عن منقذ حاذق، منقذ طارد لكل عناوين النكوص والتراخي، منقذ غير قابل للإصابة بالوهن، ولا يقبل التخدير، ولا يتعامل مع أدوات التنويم والظروف المصطنعة، ويقبل بترحاب بالنقد السليم البناء الموجه، مقابل ما تفرضه المرحلة الصناعية الوطنية الراهنة التي يشوبها الكثير من القلق والتوتر والهاجس، إن تشجيع الصناعات الوطنية، كان منذ أزل حاضراً وقوياً وبهياً، لكنه في السنوات الأخيرة لم يعد حاضرا ولا بهياَ، وفي أحياناً كثيرة أخذ مساحة واسعة من التهميش والنسيان، أو قد ترك للاقتراب من شيء، إن الصناعة الوطنية يجب أن تفرض مقابل الصناعة الأجنبية كحالة دائمة وثابتة ومستقبل واعد ومصير أمة وكيان، بعيداً عن المغامرات الفعلية، والقرارات البهلوانية، واصطناع البرامالملونة، والإستراتيجيات القاصرة، ووضع العراقيل والمصدات والمضايقات، وفرض الغرامات والجزاءات الباهظة دون أدنى سبب جوهري، إن على القائمين على الصناعة الوطنية، والمهتمين بشأنها ومستقبلها، إن أرادوا لهذه الصناعة الهامة، والرافد الإقتصادي الأهم النجاح فعلاً هو قيامهم الفوري بتلمس خفي وفطن لمتطلبات وآراء وهموم القطاع الخاص ومكاشفته بشفافية، بعيداً عن الانطوائية والعزلة وفرض الأمر الواقع في الغرف المنزوية المضاءة والمكيفة والمليئة بأقداح الشاي وفناجيل القهوة، وعليهم مراقبة المشهد الحقيقي بعيون واسعة وبصر حاد وبصيرة ورؤية منطقية، وممارسة القراءة الصحيحة والنافعة لكل جزئية عمل أو قرار، والوقوف على ما يجري الآن في دهاليز مكاتب القرارات التعسفية التي تمارس على هذا القطاع الصناعي الحيوي والهام، التي أراد أن يكحلها المعنيون للزينة فأعموها، إن على القائمين على الصناعة وجوب أن يجعلوا الصناعة الوطنية كمواجهة فعلية وأمر حال واقع، وتحدٍ لفكرة الثبات الحقيقي أمام الهجمات الشرسة للصناعات الأجنبية التي تقل كثيراَ خامة وقيمة وجودة ومنتج وعمراَ، بل تجنح للرداءة في كثيراَ من الأحيان، الذين يرغبون باستمرار الحال واصطناع الحجج الواهية لكي لا يمنحوا الصناعة الوطنية توهجها المعطل، إن على القائمين على مستقبل الصناعة الوطنية ومصيرها، أياً كانوا وفي كل المواقع والأمكنة أن يفتحوا النوافذ ويراقبوا بحدة شكل الغيمة علها تأخذ شكل البياض، وتهطل المطر المدرار، ولا يسمحوا أن تكون الصناعة الوطنية مجرد شيء ثانوي، أو رداء مهمل، أو أضحية حلمها أن تعيش (كم) عام في براري السأم والانتظار ثم تموت، أو أن تكون مجرد موجة منكسرة فوق صخور شاطئ مهجور، أو كحلم كلما جنَّ الليل ينسل ويزحف بتغلل في عروق مجعدة وأرواح غريبة، أو كذئبة حمراء العينين تخرج من زاوية تفوح من أنيابها رائحة الموت وتنشب مخالبها في الجسد، إن عليهم لكي تنجح الصناعة الوطنية بتميز واقتدار وثبات، أن يعانقوها باشتهاء حميمي كثيف، وأن تكون مرتبطة عندهم بعمق باللحم والدم، وأن لا يرخوا اللجام للأحصنة الطائشة، والنظريات الباهتة، والرؤى القاصرة، والقرارات المستعجلة غير الآنية، ولا يطل عليهم اليأس، ولا يتفصدوا عرقاً، وأن لا يكونوا كسلم يكرر نفسه كي يصل من يصل، أو كمحارة تبالغ في كتمان اللؤلوة، حتى تولد الأشجار اليانعة في حقول الصناعة الوطنية من جديد، وتورق ببها،وتصبح كالربيع البهي، وطعم الماء الزلال، والموجة الحالمة، وشهقة الفرح، وشكل العافية.