عمر إبراهيم الرشيد
يعتبر النقد الذاتي قمة في الوعي والثقة بالنفس، لذا تجده شائعاً في المجتمعات المدنية كونها تتوفر على رصيد حضاري وتقدم علمي واستقرار اجتماعي يمكنها من مناقشة مشكلاتها وعيوبها بشفافية سعيا إلى إيجاد الحلول أو المقاربات المناسبة.
المدح يسكر وتطرب له النفس البشرية، إلا من له بصيرة ثاقبة تخبره إن كان ذلك المدح حقاً أم تزلفاً أو خداعاً.. بينما النقد طعمه مر لكنه مرارة الدواء إن كان نقداً مبتغاه التصحيح،
ويعلم بذلك العارفون أيضاً. نفتقد في ساحتنا الوطنية إلى دراسات اجتماعية تنزل إلى أرض الواقع بعيداً عن التنظيرات الأكاديمية الجافة، تتناول سلوكيات وظواهر وعقداً اجتماعية تعيق تقدم مجتمعنا السعودي وانخراطه في الإنتاج والنهوض والمدنية المتعقلة. صحيح أن هذه الثورة التقنية بوسائطها كافة والتي هبطت علينا دون تدرج، شكلت فضاء مفتوحاً لكل من تطال يده جهازاً لوحياً أو هاتفاً ذكياً لينظر أو يفتي في ما يعلم وما لا يعلم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أتاح أيضا للمختصين والمثقفين الإسهام بما لديهم من علوم وفكر، إلا أن المعلومة المختصرة والسريعة هي السائدة حسب سياسة تلك الوسائط وثقافة الكثير من المتلقين لما فيها، التي تروم الخبر والصورة والمعلومة البسيطة أكثر من غيرها. لذا يظل البحث والدراسة الجادة والكتاب وسائل معرفية وأوعية فكرية، وماتزال هي المراجع الموثوقة حتى في بلاد التقنية والصناعة ذاتها.
الأستاذ مشاري بالغنيم قدم رصداً اجتماعياً لم أقرأ مثله من قبل في وضوح التناول والمباشرة، والبعد عن التنظير الجاف والشرح الممل، كما عمد إلى لغة سهلة واضحة بحيث يقرأ كتابه المتخصص وغيره، في كتابه (رؤية حول تعميق المواطنة في المجتمع السعودي) والذي أرسل لي مشكوراً نسخة منه فاستفدت منه فائدة عظيمة لأنه قدم رؤية واضحة ومباشرة وباختصار غير مخل ولا شرح ممل.
تطرق مؤلف الكتاب إلى مسائل مازال الخوض فيها يكاد ينحصر في الصالونات الاجتماعية أو الافتراضية في وسائل التواصل الاجتماعي، لأنه على المستوى الرسمي مازال النقاش وحسم الرأي فيها خجولاً. أولها مسألة القبلية وما يرتبط فيها من تفاخر من قبل البعض يؤدي إلى التقليل من شأن الآخرين على سبيل المثال، أو اعتبار القبيلة أقوى رابطة من غيرها وهذا ليس تعميما بالطبع، إلى جانب مسألة أثارت في السنوات الأخيرة جدلاً واسعاً بل وتسببت في تشتيت أسر وانهيارها وهي مسألة تكافؤ النسب في الزواج.
المؤلف طرح في كتابه القيم والذي إشار في مقدمته إلى أنه خواطر هدفها تعزيز النقاش والحوار العقلاني بين دوائر وأطياف المجتمع على اختلافها، وبالأخص العلماء والمتخصصون واصحاب الفكر والثقافة والرأي، وإن كنت أرى أن هذا الجهد أكبر من مجرد خواطر إنما هو بحث ودراسة ورصد اجتماعي وموضوعي يقدم رؤية بل ويقترح مقاربات وحلولاً يجدر بأصحاب القرار اعتبارها. اذ يعيد المؤلف التذكير بأن الشريعة الإسلامية قد حددت معيار التفاضل بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وبأن مؤسس الدولة السعودية الحديثة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إنما وحد البلاد على مبدأ المواطنة والدولة الواحدة وأنها هي المرجع والضامن للحقوق والواجبات عوض القبيلة التي كانت الظروف قديماً وقبل الوحدة تفرض مرجعيتها وارتباط الفرد بها. نادت الدراسة كذلك بمراجعة النظام القضائي لمسألة تكافؤ النسب وأخذ بعض القضاة بها كونها لاتستند على دليل شرعي ثابت عدا عن أنها تجافي مادعت إليه الشريعة من المساواة. قلت إن المؤلف كان مباشراً واضحاً في طرحه، حيث تطرق إلى مسألة القبيلي والخضيري والتي مازالت تضرب بأطنابها في العقلية المجتمعية رغم سعي الدولة إلى التحديث والتطوير منذ عقود.
وبالطبع تقر الدراسة بحق الإنسان الطبيعي بالفخر بنسبه وبقبيلته، إلا أنها تدعو إلى أن لا يطغى هذا الفخر على تفكير الفرد فيعتبر القبيلة هي المرجع والرابط دون الوطن ومرجعية الدولة. كما أن الطائفية أيضاً مهددة للهوية الوطنية إذ الوطن يسع الجميع طالما هم يحملون نفس هويته ويعيشون على نفس ترابه وتحت سمائه. يختم المؤلف دراسته هذه بدعوة مجلس الشورى ومركز الحوار الوطني وأصحاب الفكر والرأي بإيلاء تعميق الانتماء والهوية الوطنية المزيد من البحث عن الوسائل التي تطفئ تلك النعرات قبلية كانت أو طائفية وتقدم حلولاً عملية لجعل الانتماء للوطن هو السائد.
هذا الكتاب لمؤلفه مشاري بالغنيم، الذي أكتفي بعرض سريع لمادته وبالمناسبة هو مختصر وصغير حجماً لكنه عميق وكبير مادة، حقاً يستحق القراءة والبحث والنقاش لرصانته ومباشرته ووضوحه.. تقبل الله صيامكم.