د. جاسر الحربش
في دول العالم النامي تستطيع أن تحصل بالطريقة الصحيحة على شهادة جامعية أو دكتوراه وربما أيضاً بالانتساب أو التزوير أو من إحدى الجامعات الوهمية. بهذه الشهادة تستطيع العمل والحصول على التقدير المالي والمعنوي، والوصول أحياناً إلى مركز حساس بما في ذلك احتمال العمل في إدارة معادلة الشهادات الأجنبية.
وفي هذا العالم النامي نفسه يصعب أن تغامر بالحصول على شهادة مهنية أو تقنية بالتزوير أو الانتساب أو من معهد وهمي، لأن المغامرة أولاً لا تستحق، لا مالياً ولا اجتماعياً، وثانياً لأن حصولك على وظيفة سوف يضعك مباشرة في ميدان العمل فتنكشف بسهولة.
المعادلة التنموية في دول العالم النامي مقلوبة في مجالي النسبة والتناسب وكذلك التقدير المالي والمعنوي، مقلوبة بين الحاجات الفعلية لحملة الشهادات الجامعية ولحملة شهادات ودبلومات مدارس ومعاهد التدريب المهني والتقني.
واقع الحال يشبه المؤامرة البيروقراطية لعرقلة مسيرة التنمية. على المستوى الحكومي الرسمي في دول العالم النامي يصنف الجامعي (بصرف النظر عن الحاجة الفعلية إليه)، على أنه يحمل كفاءةً عاليةً، ويصنف المهني / التقني، رغم الحاجة الماسة جداً إليه، على أنه يحمل مجرد مهنة يدوية. النظام البيروقراطي يمنح الجامعي تقديراً مالياً أعلى، والوسط الاجتماعي يمنحه تقديراً معنوياً أكبر، بينما يمنح المهني حسب نظام الدولة تقديراً مالياً أقل، ويضعه الوسط الاجتماعي معنوياً في درجة أدنى، تقريباً في كل شأن اجتماعي ووجاهي.
بهذه العقلية تضع دول العالم النامي عائقين في طريق أصحاب المهن والحرف، التقدير المالي المنخفض في النظام الرسمي والنظرة الدونية في المجتمع. أي جامعي يحمل ورقة تخرج من كلية نظرية يتمتع بقاعدة معيشية وقبول اجتماعي وفرص زواج وتكوين أسرة، أفضل من خريج معهد تقني / مهني يمتلك مهارات متميزة بالكهرباء، الميكانيكا، السباكة، النجارة، برمجة الحاسب الآلي.
هل هناك وضع أصعب فهماً وأقل ذكاء وأكثر تعطيلاً للتنمية الإنتاجية والخدماتية من هذا الوضع؟.. لا أظن ولكن هذه هي العقلية التخطيطية في العالم النامي.
أغلب دول العالم النامي، بما يشمل العالم العربي بكامله، لديها نسب عددية من الكفاءات الأكاديمية أكبر من نسب المهارات المهنية والتقنية. المعادلة مقلوبة في أدمغة المخططين في العالم النامي، لأنّها تركز على الكفاءات الأكاديمية في التمويل والتدريب والابتعاث والمكافآت، وذلك طموح بدائي تتشارك فيه الحكومات مع العقليات الاجتماعية، والسر هو الوجاهة والفخفخة الإعلامية.
المعروف إحصائياً أن شروط التنمية الصناعية والزراعية والخدماتية تتطلب توفير أعداد مضاعفة من المهنيين والتقنيين والفنيين للأداء الميداني، مقابل كل كفاءة فردية أكاديمية علمية. يتساوى في ذلك الطب (التمريض والتحليل المخبري والتصوير)، والهندسة (الرسام والمساح والمشرف)، والحاسب الآلي (المبرمج ومدخل ومخرج المعلومات)، والزراعة، من تخصيب التربة وإلقاء البذور حتى الحصاد، وباختصار بشمولية كل نشاط إنتاجي.
بناءً على ذلك تتطلب التنمية الإنتاجية الفعالة في العالم النامي زيادة مستحقة ومؤثرة في المكافآت المالية للوظائف والخدمات المهنية، بما يقترب أو يزيد في بعض المهن عن مكافآت الشهادات الجامعية. هذا الوضع وحده كفيل بإحداث النظرة الاجتماعية الإيجابية إلى المهن وأصحاب المهن التي تنقص العالم الثالث، لأن الفلوس في النهاية هي الخصم والحكم.
في اليابان وألمانيا وسنغافورة تتساوى مكافآت عمال النظافة في الشارع والصرف الصحي مع، وأحياناً تتعدى مكافآت المهندسين وموظفي البنوك والخدمة المدنية. معلمو المدارس فقط يحصلون في هذه الدول على المرتبات والتقدير المعنوي الأعلى.