أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(21 - هلَّا احْتَلَبْتَ لنا الأَنسابَ من كُتُبِ؟!)
العِلْم بالأنساب: عِلْمٌ لا ينفع، وجهلٌ لا يَضُرّ!(1) وإذا صحَّ هذا في شأن الأنساب عمومًا، فإن الأنساب التوراتيَّة خصوصًا تبقى محلّ نظرٍ عميق، من حيث طبيعتها ووظيفتها. فطبيعتها قائمة على الرواية الشفويَّة، وهي طبيعةٌ معرَّضةٌ للخلط والاختلاط، ووظيفتها قائمة على أهداف إديولوجيَّة وعنصريَّة لا ريب فيها. وهذا هو الأساس في سردها، لا تسجيل معلومات الأنساب على نحوٍ عِلْميٍّ أو شِبه عِلْميّ. كما أن القَصص في الكُتب الدِّينيَّة عمومًا ذو طبيعة خاصَّة، ووظيفة محدّدة. فهو يندرج ضمن ما أسميته في مقاربةٍ سابقة بـ(النصّ الاعتباري)، الذي لا يهدف إلى القصّ، ولا إلى التاريخ، ولكن إلى التعليم والوعظ والاعتبار. ومن ثَمَّ فإنه لا يصحّ الاستناد إليه بوصفه تاريخًا، ولا أن يُقرأ قراءةً حرفيَّةً ظاهريَّةً واقعيَّة. ذلك أن هذا الضرب من النصوص يأتي عادةً في ما يُطلَق عليه في (القرآن الكريم) مصطلح (النبأ): «كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ ما قَدْ سَبَقَ»، (سورة طه، 99). وتتبلور خصائص النَّبَإ في مجموعتَين من الخصائص، تتَّصل بالشكل الخارجي والداخلي. تبرز المجموعة الأولى في: خاصيَّة الشكل الوظيفيّ، والطبيعة الرساليَّة. وتكمن خصائص الشكل الداخلي في: الشِّفْرَوِيَّة، والتناصِّيَّة، وربما تدخَّل صوت المؤلِّف، ولُعبة الالتفات، المتعلِّقة ببنية الأسلوب. فيما تتمثَّل الخصائص المتعلِّقة ببنية الخيال في: الاتكاء على المرجعيَّة الماضويَّة، وربط النَّبَإ بمصدرٍ ما، ورائيٍّ، والدَّوَران على الأحداث الإعجازيَّة، والفانتازيَّة الخياليَّة، والتوظيف الميثولوجيّ، وعلى الرمزيَّة، مع الارتكاز في مخاطبة المتلقّي على التأثيريَّة الإيمانيَّة، لا على الإقناعيَّة الواقعيَّة.(2) وتلك شؤون نصوصيَّة، لا يبدو أن المؤرِّخين غالبًا مؤهّلون للوعي بها؛ فكلّ نصٍّ لديهم تاريخ! يفعلون هذا حتى في تعاملهم مع المستوى الأدبي الخالص من النصوص، أو الشِّعريّ المحض منها؛ فتراهم يتعاملون مع تلك النصوص ببراءةٍ قرائيَّة، وسذاجةٍ استقباليَّة، لا تميز الأدبي من المعرفي، ولا التخييلي من التاريخي.
ونعود إلى القول إن (د. كمال الصليبي)- إلى ذلك العِيّ النقدي في التعامل مع النصّ التوراتي- كان يَفِرّ كعادته من البرهنة على ادّعاءاته، إلى القول إن الأيّام حُبلى بما سيُثبت افتراضاته. مع أن أرجاء الجزيرة قد تمخَّضت عن كثير من آثارها المهمّة هنا وهناك، غير أنها لم تُؤْذِن وإنْ بدليلٍ واحدٍ على ما حملتْه تأوُّلات الرجل. في حين تحمِل الآثار إشارات شتَّى عن تاريخ الجزيرة وعلاقاتها الخارجيَّة، منذ فجر التاريخ، وما قبل التاريخ. أضف إلى هذه المغالطة أن ما يحلُم به الصليبي من آثار، ليس بآثار قبيلةٍ نصبتْ مضاربها ذات يومٍ في مكان ثمّ ارتحلت، بل هو تاريخ قرونٍ (للمِصْريِّين) في (عسير)- بزعمه- بكلّ ما يعنيه المِصْرِيُّون القدماء من حضارة: بطبّها، وسِحرها، ومدافنها، ومراكبها، ومعابدها، وآطامها. وهم قومٌ مشهورون بحُبّهم للتماثيل، والمسلَّات، والنُّصُب، وتشييد المقابر، والأهرامات، حيثما حلُّوا. وهو كذلك تاريخُ قرونٍ متطاولة جدًّا لـ(بني إسرائيل)، في عسير و(الحجاز)، بأنبيائهم، ورسلهم، وكُتبهم، وصناعاتهم، وملوكهم وممالكهم، ولا سيما مملكتَي (داوود) و(سليمان). هذا المَلِك الذي «قَالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي، وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِن بَعْدِي، إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّاب. فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَاب. والشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وغَوَّاص. وآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأَصْفَاد. هـذا عَطَاؤُنَا فامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب}. (سورة ص: 35- 39). وما يَرِد عن سليمان في (التوراة) أعظم. فهل جاء الصليبي لتأويل هذه النصوص، أم لمحوها محوًا، واختلاق نصوصٍ أخرى من عنده، ثمّ تأويلها؟! كان يلزمه تحديد أهدافه والالتزام بها. إنْ كان جاء لتأويل التوراة، فتأويلاته تناقض التوراة، كما بيَّنَّا في مقالاتنا من قبل. وإذا كان يرى أن العهد القديم يسوق معلومات عن مُلك سليمان ينبغي أن نَعُدّها ذات أصلٍ تاريخيٍّ، ومن هنا كان مُنْطَلَقه في البحث عنها، وعن جغرافيتها، فكذلك كان يلزمه أن يَعُدّ ما وَرَدَ في القرآن الكريم ذا أصلٍ تاريخي، وإنْ لدى غير المؤمن به دِينيًّا. وبذا كان عليه، جدلًا، أن يخبرنا: أين ذهبت تلك المملكة العظيمة؟ وأين تلك الأبنية التي بناها عفاريت الجن لسليمان؟ وأيُّ غوصٍ أو غوّاصين بين شماريخ (النماص)، حيث زعم الصليبي أن مملكة سليمان كانت غوصفي الصخور؟!
إنها مملكة بجنِّها، وإنسها، وتماثيلها، ومحاريبها، ودروعها، وحروبها، وبهيكلها وأورشليمها. فأين مسرح ذلك كلّه؟ أ في قرية (آل شريم)؟! ثمّ هو تاريخُ قرونٍ طويلةٍ لأنبياء من أُولي العزم من الرسل: (إبراهيم)، و(إسحاق)، و(يعقوب)، و(يوسف)، و(موسى)، و(عيسى)، وغيرهم. بل قبل ذلك، تاريخ (نوح) وما قبل نوح؛ فكلّ أولئك قد كدَّسهم الصليبي، متحاشرين في تلك الخُبوت والجِراد والشِّعاف، حسب فيلمه الغرائبي، في سينما الخيال التاريخي الأكثر شعبيَّة في العصر الحديث.
ولقد حظيت أعمال الصليبي بإعجابٍ لا ينكَر، ووافقت أهواء عاميَّة وميولات رغبويَّة لا عقال لها. كانت تنبثق عن أسباب إديولوجيَّة، أو أسباب قوميَّة، أو أسباب قُطريَّة سياسيَّة، أو لأسباب خياليَّة محضة، أو لخليط من هذا وذاك. أوهاها شأنًا وأطرفها تلك التي استخفت أصحابها لأن فرضيّات المؤلِّف تمنحهم تاريخًا مؤثّلًا لا نظير له، وإنْ كان تاريخًا من الأوهام. قائلين في أنفسهم، أو في بني أهوائهم: وما لنا أن لا نفخر بأن نكون أرض الأنبياء والرسل، ومعدن التاريخ الدِّيني القديم؟! أيُّ مجدٍ أسمَى، وأيّ نَسَبٍ أشرف، وأيّ تاريخٍ أعرق، وأيّ بلادٍ أكرم وأقدس؟! وهؤلاء لا يعنيهم منهاج، ولا يؤمنون بتاريخ، ولا يحتكمون إلى منطق، وإنما تدغدغ عواطفهم المغالطات، وتغيب عن أفهامهم المقدّمات والمآلات. وإلَّا فلو سأل سائل أستاذهم، وسأل مَن تُيِّم بافتراضاته لأمر من تلك الأمور أو لآخر- فإذا هو يُقيمه رائد مذهبٍ في البحث ورأس مدرسةٍ في التاريخ الحديث، بما تفتَّقت عنه مخيّلته الخرافيّة من طرائق قِدَدٍ في الاستقراء والاستدلال-: هلّا جئتَ لنا بنقشٍ صغيرٍ دالٍّ على ما تقول، أو برسمة صخرية، أو ببناءٍ شاخصٍ، أو بتمثالٍ، أو بعُشر تمثال! لو سأل ذلك أو بعض ذلك، لما ألفى منه من شيء قط، لا لدى المسؤول ولا لدى أستاذه. على حين بقيتْ في جزيرة العرب بعض الرسوم الصخريَّة، والنُّصُب التذكارية، وبقايا الآثار، وإنْ كانت لأعرابٍ حفاةٍ عراةٍ، من رعاة الشاء والإبل. هذا فضلًا عن آثار أُمم أخرى وحضارات مرَّت على الجزيرة، أو كانت بينها وبين العرب علائق، ولو عابرة. أ فيُعقل أن ذلك التاريخ الهائل، تاريخ بني إسرائيل، كلّه قد تبخر هكذا، أو ابتلعته الأرض؟ أ لم تبق له من باقية، غير أسماء الأماكن، التي هي رأس مال الصليبي، يقلّبها بين صفحات كتبه؟ أسماء شُبِّهت إليه ببعض مفردات التوراة، أو بالأصح حاول هو أن يشبِّهها إلى القارئ، فظلّ يُبدئ القول حولها ويعيد، هو ومَن تبعه بتقليد إلى يوم الناس هذا، وإلى ما شاء الله! أ كان ذلك التاريخ أتفه من أن يدع لنا أثرًا شاخصًا واحدًا، ولو كالآثار (المعينيَّة)، ولن نقول كالآثار (الثموديَّة)، أو الآثار (السبئيَّة)، التي بقيتْ دالّة على أهلها وعلى تاريخهم وعلاقاتهم، وبلا حفائر أو تنقيب في بعض الحالات، على الرغم من سيل العَرِم وجميع السيول التاريخيَّة المتعاقبة. ذاك مع أن تلك الآثار، في معظمها، هي أقدممن ممالك بني إسرائيل المزعومة. ولقد عُثِر كذلك على بعض آثار المِصْريِّين القدماء، ربما دونما تنقيب، في الأماكن التي مَرُّوا عليها، وإنْ مرورًا، فكيف بمستعمرةٍ استوطنوها لعدّة قرون، وأسّسوا فيها دولةً وحضارةً، فكان لهم فيها العمران والمراكب والجيوش؟!
أسئلة لا مفرّ من مجابهتها والتأمّل فيها بجديّة قبل التورّط في فرضيّات الخيال التاريخي، غير العِلْمي!
نعم، عُثِر على بعض الآثار المِصْرِيَّة في شمال الجزيرة العربيَّة، لكنه لم يُعثر على شيء منها يُذكر في جنوبها. فماذا يعني هذا بالنظر إلى ادّعاءاتٍ كادّعاءات الصليبي العريضة الطويلة؟! هل من إجابةٍ، سوى أنها محض اختلاق؟! عِلْمًا بأن المناطق التي نَسَبَ إليها استيطان المِصْرِيّين، ونَسَبَ إليها تاريخ بني إسرائيل المقترن بتاريخ المِصْرِيّين، هي مناطق صخريَّة جبليَّة، لا صحارى ولا رمال ليقال باحتمال انطماس الآثار فيها، واندثار الشواخص، وامّحاء الكتابات والنقوش والرسوم، فلا تُعرف- بالضرورة- إلّا بالحفر والتنقيب. ولقد بقيتْ آثار قوم (صالح)، مثلًا، وغير قوم صالح، في شمال الجزيرة وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها، ماثلًا بعضها في الصحراء إلى اليوم، فيما لم يبق مثقال ذرّة من تاريخ الصليبي المخترع، مع ما يفترض من أنه تاريخٌ لما هو أعظم، ولما هو أطول وأكبر وأخطر!
والسبب واضح، وهو أنه لا يعدو تاريخًا هُلاميًّا مؤلَّفًا من الكلمات والأسماء والخيالات والأوهام. إنه عجزٌ عن إثبات شواهد التاريخ على الأرض، فلجوءٌ إلى ادعائها من خلال بعض اللمسات الحروفيَّة، مقارنةً بين الأسماء في «العهد القديم» والأسماء في «المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة».
** ** **
(1) ورد هذا في حديثٍ نبويٍّ، وقد قيل لديه: «فلانٌ علَّامة بالنَّسَب». (يُنظر: الآبي، أبو سعد منصور بن الحسين (-420هـ)، (د.ت) ، نثر الدُّر، تحقيق: محمّد علي قرنة، وعلي محمّد البجاوي (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب)، 1: 268؛ ابن عبدالبر، أبو عمر يوسف (-463هـ)، (1994)، جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري (السعودية: دار ابن الجوزي)، 752 (1385)؛ البرهان فوري، علاء الدِّين علي المتقي بن حسام الدِّين الهندي (-975هـ)، (1985)، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، باعتناء: بكري حياني وصفوة السقا (بيروت: مؤسسة الرسالة)، 10: 218 (29156)). وإذا كان (ابن عبدالبرّ) قد ضعّف سنده، فإن معناه صحيح. من حيث إن تداخل الأنساب مَضِلَّة، والانشغال بها ليس مما يقوم من العِلْم على معطيات صُلبة. كما أنه ليس ممّا ينفع الناس، إلّا في حدودٍ محدودة جدًّا. هذا إنْ لم يكن مفسدةً بين الناس؛ بما يبعثه من العصبيّات والنعرات والمنابزات. ولا تَفاضُل في أصلٍ أصله تُرابٍ، ومآله إلى تُراب.
(2) انظر بحثي: (1999)، (في بنية النصّ الاعتباري (قراءة جيولوجيَّة لنبأ حيّ بن يقظان: نموذجًا))، (مجلَّة (أبحاث اليرموك)، جامعة اليرموك، الأردن، م17، ع1، ص9- 52).