سلمان بن محمد العُمري
تؤكّد بيانات وزارة الداخلية حزمها وعزمها الضرب بيد من حديد على كلّ من يريد المساس بأمن البلاد بسوء، وفي أرض الواقع يتحقق ذلك في متابعة الإرهابيين المجرمين الذي خطّطوا لتنفيذ أعمال إجرامية، وإثارة الفتنة الطائفية وإشاعة الفوضى عبر تنظيم يغذى من تنظيم داعش الإرهابي.
وفي البيان الأخير الذي أعلن عن القبض ـ ولله الحمد ـ على تنظيم يضم (431) شخصاً مواطنين وغيرهم ممّا يوضّح نجاح الحملات الأمنية الاستباقية، وخبراتها الكبيرة في تتبّع المجرمين الإرهابيين، ولتؤكد من جديد قدرة وكفاءة قطاعاتنا الأمنية وكفاءتها بالسيطرة على فلول الإرهاب ومتابعة الفئات الضالة المسعورة ممن تريد الفساد والإفساد وذلك بترويع وقتل الآمنين وتدمير الممتلكات وإحداث الفوضى في البلاد.
فإلى أي دينٍ ينتمي هؤلاء؟! وما المدارس التي تخرّجوا منها للعبث بأمن بلادهم وقتل أهلهم؟! ومن يغذّيهم؟! وما وسائلهم وطرقهم الخبيثة؟! وإلى متى ينتهجون هذه الأساليب العدوانية الشريرة؟!
إن الباحثين والمحللين يتفقون على أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، وتؤكد الأحداث الدالة على ذلك أن الإرهاب ليس ابن اليوم، بل له جذوره وتاريخه القديم. وتكشف الوقائع الدامية للإرهاب أنه ليس وليد الساحة العربية الإسلامية، بل إن دولاً في مختلف أنحاء العالم تجرّعت كأس الإرهاب والتطرف.
ومع تزايد وتيرة الإرهاب في الآونة الأخيرة وكثرة المؤتمرات والندوات المحلية والدولية إلا أنه لا يوجد حتى اليوم تعريف متفق عليه دولياً للإرهاب، والسبب في ذلك تباين المصالح، واختلاف المعايير بين الدول، على الرغم من محاولة كثير من أساتذة القانون، والعلوم السياسية والأمنية، وضع تعريف للإرهاب، ورغم محاولات مجموعة الدول العربية، ودول عدم الانحياز، ومنظمات دولية وإقليمية، وبعض المراجع اللغوية المعاصرة، وضع تعريف للإرهاب بالمعنى المصطلح عليه سياسياً. إلا أنها لم تتوصل إلى وضع مفهوم موحّد للإرهاب.
الإرهاب ظهر في تاريخ الأمة الإسلامية من أناس خارجين عن الدولة الإسلامية، وقد تسببوا في إضعاف الأمة وشقّ صفّها، كأتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، وأتباع مسيلمة الكذاب في زمن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ، والخوارج في زمن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، وظهر أناس آخرون ادعوا الولاء لآل البيت، وهم أعداء في الحقيقة لآل البيت، وبعضهم ادّعى النبوة باسم ولاء آل البيت، وبعضهم ادّعى ما هو أكثر من ذلك، حتى ادّعى بعضهم الألوهية!!
والإرهاب قد تمارسه مؤسسات، وأحزاب، وجماعات، وطوائف، وعرقيات، ومن قصره على طائفة أو عرق فقد أخطأ. فالإرهاب لا يرتبط بأيديولوجية معينة، ولا بظرف مكاني، أو زماني محدود، ولا يرتبط بلون أو جنس بشري، أو حضارة بعينها.
المملكة والإرهاب
لقد اكتوت المملكة العربية السعودية وعانت من الإرهاب الذي أصبح ظاهرة عالمية وبأشكال مختلفة، وتعددت أساليبه. وعلى الرغم من ذلك تصدّت المملكة قيادة وحكومة وشعباً للإرهاب في ملحمة وطنية رائعة للإرهاب وأذنابه، ومن يقفون وراءه لمواجهة الفكر الإرهابي الخبيث ومواصلة العمل لاجتثاثه من جذوره، مسطّرين رجال أمنه ملحمة كبرى في القضاء على الإرهاب وتتبعه في جحوره، وملاحقة خفافيشه في كل مكان.
إن الفكر الإرهابي كما ذكرت ليس وليد هذه اللحظة، وتلك الأيَّام بل قديم تغذيه أيدي الشر والحقد على بلاد الحرمين الشريفين التي أنعم الله عليها بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى وأولها نعمة الإسلام والأمن والأمان والخير الوفير.
جرائم إرهابية
يكشف بيان إحصائي تاريخ أبرز الجرائم الإرهابية التي ارتكبت في المملكة العربية السعودية من عام 1965 وحتى عام 2015م وفق التالي:
- عام 1965 القبض على «مخربين»، من دولة مجاورة قاموا بتفجيرات في مؤسسات أهلية وعامة عديدة بمدينة الرياض.
- عام 1979 قيام مجموعة من المتطرفين باقتحام الحرم المكي الشريف وهو قبلة المسلمين بالعالم في صلاتهم خمس مرات في اليوم، وإطلاق النار على المصلين واحتجازهم فيه مما تسبب في تعطيل الصلاة لمدة ثلاثة أيَّام.
- عام 1986 إحباط محاولة تهريب (51) كيلوجراما من مادة سي 4 شديدة الانفجار بمطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، كانت بحوزة حجاج إيرانيين دون علمهم عند قدومهم للحج، تلك المتفجرات كان الهدف منها هو استخدامها لتفجير المسجد الحرام في مكة وقتل مئات الآلاف من الحجاج.
- عام 1989 استغل مجموعة قدمت ضمن الحجاج الكويتيين تهريب متفجرات للأماكن المقدسة في مكة المكرمة وفجروا في باحة الحرم المكي الشريف ونتج عن ذلك وفاة أحد الحجاج وإصابة (16) آخرين.
- عام 1995 تفجير إرهابي بسيارة مفخخة بالرياض في مبنى يتبع وزارة الحرس الوطني السعودي وكانت الحصيلة مقتل (3) أمريكيين وهنديين وأصيب نحو ستين شخصاً بجروح.
- عام 1996 تفجير إرهابي بشاحنة محملة بطنين من المتفجرات بمدينة الخبر، وكانت الحصيلة مقتل (19) أمريكياً وأصيب وجرح (386) شخصاً أغلبهم نساء وأطفال.
- عام 2000 اختطاف طائرة مدنية سعودية بواسطة (2) من الإرهابيين والتوجه بها إلى العراق.
- عام 2003 هاجم إرهابيون انتحاريون بثلاث سيارات مفخخة (3) مجمعات سكنية بمدينة الرياض وفي وقت متزامن هي : مجمع درة الجداول، مجمع الحمراء، مجمع شركة فينيل ، وكانت الحصيلة مقتل (26) شخصا وأكثر من (160) جريحا من جنسيات مختلفة، إضافة للانتحاريين.
- عام 2003 هجوم إرهابي بشاحنة مفخخة على مجمع المحيا السكني بمدينة الرياض الذي يسكنه مقيمون عرب وأوروبيون، قادمون للعمل بالمملكة، هذا العمل الإرهابي حدث في شهر رمضان وهو من الأشهر الحرم التي يحرم فيها سفك الدماء. وكانت حصيلة هذا الهجوم (12) قتيلا و(122) جريحا من الأبرياء بينهم (35) طفلاً.
- عام 2004 وفي اعتداء إرهابي في العاصمة الرياض قتل المصور التلفزيوني الإيرلندي سيمون كامبرز وأصيب زميله البريطاني فرانك غاردنر مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لشؤون الأمن (الذي وجهت له دعوة لزيارة المملكة مرة أخرى وشاهد مواقع الأحداث الإرهابية).
- عام 2004 هجوم إرهابي بسيارة مفخخة على مبنى المرور بمدينة الرياض المكون من (7) طوابق والحصيلة استشهاد (5) من رجال الأمن ومواطن وأصيب (148).
- عام 2004 مقتل خمسة مهندسين أمريكيين وبريطانيين وأسترالي في هجوم شنّه إرهابيون على مجمع للبتروكيماويات.
- عام 2004 مسلحون إرهابيون يقتحمون مجمعاً سكنياً في الخبر ويحتجزون عشرات الرهائن، أغلبهم موظفون في شركات نفط أجنبية، وخلفت العملية (22) قتيلا.
- عام 2004 تفجير إرهابي بسيارة مفخخة يقودها انتحاري استهدف مبنى وزارة الداخلية، وتزامن في الوقت نفسه تفجير سيارة مفخخة يقودها انتحاري استهدفت مبنى قوات الطوارئ شرق العاصمة الرياض.
- عام 2006 محاولة فاشلة استهدفت معامل بقيق لتكرير النفط، حيث حاول انتحاريان إرهابيان تفجير سيارتين كانا يستقلانها واستشهد رجلا أمن وقتل المنفذان.
- عام 2007 مجموعة إرهابية مسلحة فتحت النار على فرنسيين يسلكون طريقا قرب مدينة تبوك (شمال غرب المدينة المنورة) كان الضحايا مع نسائهم وأطفالهم والحصيلة مقتل (4) فرنسيين.
- عام 2009 محاولة اغتيال فاشلة لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، نفذت من أحد المطلوبين أمنياً بتفجير نفسه، وهو شقيق خبير المتفجرات (إبراهيم عسيري) الذي سبق أن جند الشاب النيجيري (عمر الفاروق) لتفجير طائرة ركاب مغادرة من أوروبا وهي في طريقها إلى الأراضي الأمريكية.
- عام 2009 شهد أحد المنافذ الحدودية في منطقة جازان، مواجهة مع تنظيم القاعدة حينما حاول اثنان من المدرجين على إحدى قوائم المطلوبين التسلل إلى المملكة متنكرين بزي نسائي الحصيلة مقتل (2) من الإرهابيين.
- عام 2012 استشهاد اثنين من أفراد حرس الحدود بمحافظة شرورة جنوب البلاد على الحدود مع اليمن على يد (10) إرهابيين حاولوا التسلل إلى اليمن.
- عام 2014 حاول ستة إرهابيين التسلل من اليمن إلى داخل الأراضي السعودية عبر منفذ الوديعة الحدودي مع اليمن نتج عنه استشهاد رجل أمن، ومقتل خمسة من الإرهابيين.
- عام 2015 تسلل (4) إرهابيين عبر الحدود الشمالية للمملكة بمحاذاة مركز سويف التابع لجديدة عرعر بمنطقة الحدود الشمالية ومصرعهم جميعا واستشهاد ثلاثة من رجال الأمن.
- عام 2015 إحباط محاولة تهريب 30 كيلوجراما من مادة آر دي إكس المتفجرة على جسر الملك فهد، وسبقتها محاولة تهريب قرابة 60 كيلوجراما من نفس المادة كانت معومة في البحر في الخليج العربي بالقرب من سواحل المملكة.
- عام 2015 استشهاد رجلي أمن وهما يؤديان واجبهما الوظيفي على أمن الطرق الرئيسية بشرقي الرياض بعد استهدافهما بإطلاق النار عليهما من قبل اثنين من الإرهابيين.
- عام 2015 استشهاد رجل أمن أثناء تأدية واجبة الوظيفي في أمن أحد المواقع الرسمية جنوب الرياض، بعد تعرضه لإطلاق نار وحرق جسده من قبل مجموعة إرهابية.
- عام 2015 تفجير إرهابي انتحاري بمسجد بمحافظة القطيف بالمنطقة الشرقية الحصيلة استشهاد (22) شخصا من المصلين.
- عام 2015 تفجير إرهابي انتحاري بمسجد بمدينة الدمام بالمنطقة الشرقية الحصيلة استشهاد (4) أشخاص.
كما وقع عدد من العمليات الإرهابية من الخطف والاغتيالات لمقيمين أوروبيين وأمريكيين في مدن مختلفة من المملكة، ومورست في بعض هذه العمليات الإرهابية أبشع الطرق والقسوة من خلال التمثيل بالجثث بقطع الرؤوس ووضعها على الأجساد وتصويرها، دلالة على استهانتهم بحياة الإِنسان والتعدي على أهم حقوقه وهو حرمانه من الحياة.
محاربة مستمرة
إن منهج المملكة ورسالتها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بتصدّيها للإرهاب وأذنابه ومن يقف وراءه، حيث تصدّت لأعمال العنف والإرهاب على المستويين المحلي والعالمي فحاربته محلياً وشجبته واستنكرته دولياً، وأثبتت للعالم أجمع حزمها وصرامتها في مواجهة العمليات الإرهابية، ورفضها الشديد للإرهاب بكافة أشكاله وصوره.
وحرص قادة المملكة على التأكيد على ذلك، وعدم التهاون والتساهل مع كل من يحاول المساس بالأمن ومدخرات الوطن، ومتابعة وملاحقة المتعاونين والمؤيدين للفكر الإرهابي المتطرف.
فيقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - عن تفجيرات الإرهابيين: «إن الشعب السعودي كله هو المستهدف من هذه التفجيرات وليس رجال الأمن فقط لذا فكل مواطن مطالب بحماية العقيدة، والثبات عليها، وحماية بلادنا من كل غاشم سواء في الداخل أو الخارج».
ويقول المليك المفدى ـ أيضاً ـ في حديث آخر: «إن جهود المملكة لن تتوقف يوماً عن محاربة الفكر الضال ومواجهة الإرهابيين والقضاء على بؤرهم، مشدداً على ما وجه به بأن يكون كل مشارك أو مخطط أو داعم أو متعاون أو متعاطف عرضة للمحاسبة والمحاكمة، وأن ينال عقابه الذي يستحقّه».
ويؤكد رجل الأمن الأول صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية: «أن المملكة مصمّمة وعازمة بكل قوة وحزم على مواصلة جهودها في مكافحة الإرهاب وكل صور تمويله».
وقال سموّه في مناسبة أخرى: «إن التحديات التي تواجه أمننا كثيرة تستدعي مواجهة حازمة وذكية ضد الفعل الإجرامي.. مواجهة تكشف زيف الادعاءات والرايات وتصون شباب أمتنا من خديعة التنظيمات المضلة».
إنني في هذا المقام لست بصدد ذكر الجهود التي بذلت من قطاعات الدولة وأجهزتها الرسمية على تجفيف منابع الإرهاب واجتثاث جذوره وفق برامج وخطط متنوعة. وإن كان مع الأسف الشديد أن جهود بعض القطاعات وقتي، وتكون كردود فعل بعد حصول حدث ما، وينتهي كل شيء!!
استراتيجية شاملة
إن محاربة الإرهاب وعلى الرغم مما بذل وقدم إلا أن ذلك يتطلب استراتيجية شاملة وخطط دائمة، ومواصلة البرامج المتعلقة بالأمن الفكري وترسيخه في المجتمع، ووضع برامج للتحصين ومكارم الأخلاق متنوعة تشترك فيها قطاعات الدولة وبأساليب وطرق مختلفة غير تقليدية، وأن تسهم القطاعات الشرعية والأمنية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية والشبابية وغيرها، كلٌّ وفق اختصاصه بوضع خططها بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، وألا تكون جهة بمعزل عن الأخرى. فمحاربة الفكر الإرهابي والتطرف والغلو ليست مسؤولية القطاعات الأمنية بل كل مؤسسات المجتمع تشترك وتتحمل المسؤولية في الوقاية أولاً والمجابهة لصد التيارات الفكرية الغالية، والتيارات الفكرية اللا أخلاقية التي تنشر السموم والأفكار الهدامة المخالفة للدين والأعراف المجتمعية.
إن من الجهود التي ينبغي بذلها ووضعها في الحسبان استخدام التقنية وتوظيفها بشكل دائم لمحاربة الجماعات المغالية من الدواعش وغيرهم، حيث إن تلك الجماعات وظفت جميع الوسائل الإعلامية والإلكترونية. وغير خاف على ذوي الاختصاص أن معظم جهود هذه الجماعات الإرهابية استغلّت الوسائل الإعلامية والإلكترونية. ويدرك أهل الاختصاص أن معظم جهود هذه الجماعات موجهة للمملكة، ومتقصدة لشبابها، وهذا أمر تجاهر به هذه الجماعات وهو ما يؤكد ما ذكرته في أحاديث سابقة من أن الجزء الأهم في محاربة الغلو والتطرف تكون مساحته على أرض وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، ومضاعفة استعمالها، وتخصيص جيش من المختصين في هذا المجال، وتدريب طلبة العلم والمشايخ وأهل الفكر على استعمال هذه الوسائل بكل احترافية ومهنية، لحماية أمن الوطن، وبيان حقيقة الدين الإسلامي، ونشر مبادئه الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة. أما الاقتصار على الوسائل التقليدية القديمة فإنَّ ذلك لم يعد كافياً، مع أهمية المحافظة على الوسائل القديمة والدعوة إلى الاعتدال والوسطية، وأن الإسلام جاء بالقناعة والرفق وعدم الإكراه. والتأكيد على ضرورة تضافر الجهود من قبل الهيئات والمؤسسات التربوية والدينية والاجتماعية والإعلامية في مواجهة الإرهاب.
طعون مؤلمة
إن ما حدث في بلادنا - حرسها الله - خلال السنوات الماضية من أحداث مؤسفة وأعمال إرهابية بغيضة قام بها فئة من الخارجين على الجماعة، هو امتداد لفكر منحرف يخرج بين الحين والآخر، يصيب الأمة بطعون مؤلمة لأنّها ليست من الأعداء، بل من أناس ينتمون إلينا، ولكن الله - سبحانه وتعالى - دائماً يرد كيد الظالمين في نحورهم، ويوقعهم في شرور أعمالهم، وتكون عاقبتهم السوء في هذه الدنيا، وما عند الله في يوم الفصل أشد وأعظم، فقد استرخصوا النفس البشرية بالقتل والاغتيال، ودمروا الممتلكات وأهلكوا الحرث والنسل، ولقد قيض الله لهم في هذه البلاد رجال أمن أشاوس، استطاعوا بحمد الله القضاء عليهم في أوقات قياسية على الرغم مما خططوا له، وجمعوا له من أموال وعدة وعتاد، وما عانت منه دول عظيمة في عقود طوال كانت لرجال الأمن لدينا الضربة القاضية في مدة يسيرة، ولا ننسى هنا تضافر الجهود وتكاملها في عناصر الأمن العام، والأمن الفكري المتمثل في قيام المؤسسات المعنية، ومنها المؤسسات الشرعية من خلال العلماء والقضاة والخطباء والدعاة وطلبة العلم وأئمة المساجد بجهود مشكورة في التصدي لهذا الفكر المنحرف، والتحذير منه، ومنع انتشاره، والتوضيح للناس مدى خطورته من عدم الانسياق بالعواطف مع ما يشيعونه، وكان لتكامل هذه الجهود بتوفيق الله الأثر الكبير في اندحار فلول الإرهاب والقضاء عليه. وعلينا مواصلة تعرية فكرة الخوارج من كافة العلماء وطلبة العلم والدعاة بالتعاون مع كافة وسائل الإعلام والاتصال وأن لا نتوقّف عن ذلك.
إن الفكر المنحرف لا ينقطع، بل ويظهر مرة ويختفي أخرى، وكان لا بُدَّ من التحصين المسبق له، ومنع ظهوره ما أمكن السبيل إلى ذلك، من هنا تظهر أهمية العمل على تحقيق الأمن الفكري عند أبنائنا، وهي مسؤولية يجب أن يضطلع بها كل غيور على ممتلكاتنا الغالية، وبلدنا الحبيب.
الأمن الفكري
وفي كتابي المعنون بـ (خطورة الإرهاب ومسؤولية الأمن الفكري) خرجت بمجموعة من التوصيات المهمة التي قد تعين على مجابهة الإرهاب، وتحصن المجتمع من الأفكار الغالية المنحرفة، ومن أبرزها:
أهمية تضافر كافة الجهود من قبل الهيئات والمؤسسات التربوية والدينية والاجتماعية والإعلامية في مواجهة الإرهاب، ومكافحته، ومقاومته لأنّها مسؤولية جماعية، وليست مسؤولية رجال الأمن بمفردهم، والعمل على تحصين الشباب والناشئة من الأفكار المنحرفة والضالة، وذلك عن طريق المؤسسات الشبابية والتعليمية ووقايتهم؛ لأن الوقاية خير من العلاج، مع أهمية قيام الجامعات السعودية بتخصيص دراسات وبحوث أكاديمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، عن الإرهاب ومسبباته، وعلاج العوامل المساعدة في قيامه ونشوئه دينيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسياً، وأهمية قيام وسائل الإعلام بتقديم الرسائل التوعوية خصوصاً في المقالات والحوارات، وليست الإثارة والاستفزاز والتهييج، مع تبيان مظاهر الوسطية في ديننا الإسلامي من خلال المناهج الدراسية وتقديم الشواهد من تاريخ السلف الصالح من المسلمين، وذم الغلو والتطرف، إلى جانب ضرورة العناية بالشباب واحتضانهم من قبل العلماء والدعاة، والتواصل معهم عبر الدروس واللقاءات المباشرة واحتوائهم؛ لئلا يتبناهم أصحاب الفكر الضال والمنحرف.
وأوصت الدراسة البحثية بضرورة انتهاج منهج الشفافية والوضوح في طرح كافة القضايا التي تهم الشباب والناشئة والبحث عن سبل المعالجة، وعدم ادّعاء الكمال والتمام وإنكار العيوب، مع تشجيع المثقفين والأدباء وتحفيزهم للمساهمة بالدور المنشود منهم إلى جانب الدعاة والخطباء والوعّاظ في مكافحة الفكر المنحرف بنقد السلوكيات والأفكار المنحرفة، إضافة إلى ضرورة تكثيف نشر اعترافات الشباب الذين انتصحوا، ومن سبق أن غرر بهم، وما كانوا عليه من أخطاء وتقديمهم كنماذج للشباب الآخرين، ولئلا يقعوا بما وقعوا هم فيه، مع تبيان جهود المملكة في العمل الإسلامي والدعوي في داخل المملكة وخارجها، وما تقوم به في خدمة الإسلام والمسلمين، وتصحيح الأفكار المغلوطة لدى الشباب.
المنهج الوسطي
طالبت الدراسة الجهات ذات الاختصاص بضرورة مواصلة المؤسسات الشرعية بعقد الندوات لتوضيح منهج الإسلام الوسطي، وكشف الأفكار الغالية وأساليبها للمجتمع خصوصاً الشباب، ووضع برامج توعية للأسر حتى يقوم الآباء بدورهم تجاه أبنائهم، وحمايتهم من المنزلقات التي قد توقعهم في أتون هذه الفتن، وتضر بهم وأهليهم ووطنهم وأمتهم، وكذا مطالبة وسائل الإعلام بالاستمرار في كشف الوجه القبيح للإرهاب، وذلك بإبراز أحاديث العلماء والدعاة وطلبة العلم وخطباء الجمعة، مهيباً بفرسان المنابر القيام بتناول خطورة الإرهاب والغلو والتطرف، وإيضاح حقيقة أصحاب الأفكار المتطرفة الغالية.
كما خلصت الدراسة البحثية لكتابنا (خطورة الإرهاب ومسؤولية الأمن الفكري) إلى عدد من النتائج، منها أن أعمال الإرهاب التي وقعت في بلاد الحرمين، أساءت للإسلام والمسلمين، وليس لها أي مبرر شرعي، وإنما تصب في مصلحة أعداء الإسلام الذين استخدموا الإرهابيين كأداة لتنفيذ مخططاتهم لتشويه الإسلام والإضرار بالمملكة، وأن الإسلام لا يبيح الخروج على الحاكم المسلم، حتى مع افتراض وجود خلاف سياسي أو مخالفات شرعية، ذاكراً مثالين عمليين من تاريخ الأمة الإسلامية تجسدا في موقف أمام أهل السنة، الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمهما الله تعالى - مع التحذير من عاقبة تفشي الأميّة الدينية، وأنها أرض خصبة لنمو الإرهاب.
كما تعرضت الدراسة البحثية لبيان أهمية الأمن الفكري، ولتصانيف العلماء المتقدمين في تأصيله والتحذير من ضده، مبيناً الحاجة إلى تأصيل هذا المنهج في المدارس والجامعات حماية للفكر من الغلو والتطرف، وأن الأمن الفكري مسؤولية مشتركة، تبدأ من الأسرة والمدرسة، وتساهم في تحقيقه وسائل الإعلام والجامعات والدعاة وحلقات تحفيظ القرآن الكريم.
نعمة الأمن
الشريعة الإسلامية السمحة في مقاصدها الشاملة ترسيخ لقواعد وأركان الأمن، وفي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وعيد شديد لكلّ من يخلّ به بفعل أو قول، ففي الإخلال به مضادة لمقاصد الشريعة وتعطيل لأحكامها، وتهديد للمسلمين وزعزعة لاستقرار الأمة. والمملكة العربية السعودية « بلاد الحرمين الشريفين «، مهبط الوحي، ومهد الرسالة الخاتمة، من خلال تطبيق الشريعة في جميع أمورها نعمت بالأمن، وحققت في ظلاله طفرات تنموية تغبطها عليها جميع دول العالم، وانخفضت بها معدلات الجرائم إلى أقل مستوى مقارنة بأكثر الدول تقدماً وتطوراً من الناحية التقنية والأمنية، وتلك الدول تعمل بها عشرات الأجهزة الأمنية التي تنفق ملايين الدولارات سنوياً لتحقيق مثل هذا الأمن أو ما يقاربه.
وفي الآونة الأخيرة، وفي ظل ما اقترفته أيدي الإرهاب والإجرام ممن انحرفوا عن منهج الإسلام، وصراطه المستقيم من أعمال إرهابية وتخريبية مشينة، فمن الطبيعي أن يتضاعف إحساسنا جميعاً بنعمة الأمن التي ننعم بها، وتستوجب منا جميعاً أن تتوجه بالشكر إلى الله ـ جلّ وعلا ـ ثم إلى ولاة الأمر الذين حكموا شرعه في جميع أمور الحياة، فأمن الناسُ، مواطنون ومقيمون على أرواحهم، وأعراضهم، وأموالهم، وممتلكاتهم.
وشكر نعمة الأمن ـ في مثل هذه الظروف ـ وفي مواجهة هذه الفئة الضالة التي أزهقت أرواح الأبرياء، وأهدرت الدماء المعصومة، وعاثت في الأرض فساداً وإفساداً، يتجاوز حدود الكلام إلى ضرورة الفعل، بعيداً عن النظرة القاصرة التي تحصر مسؤولية الأمن في رجال الشرطة فقط، أو الأجهزة الأمنية، فبالشكر تدوم النعم وتربو.
وشكر نعمة الأمن التي ننعم بها مسؤوليتنا جميعاً، وليست مسؤولية رجال الأمن فقط، ففي ظلّها أمنا جميعاً، واستفدنا كلنا من مخرجات الخطط التنموية في بلادنا طوال العقود الماضية، وإذا كان رجال الأمن يتحمّلون العبء الأكبر في صيانة هذه النعمة، ويسهرون على حمايتها وشكرها، والناس نيام، فإنَّ الظروف الحالية تتطلب منا جميعاً أن نكون رجال أمن، كل في حدود طاقته، فالمفكر والمثقف مسؤول عن حماية الأمن الفكري من أي انحراف يصبّ في خانة التطرّف والغلو، والعلماء مسؤولون عن تصحيح المفاهيم الخاطئة المخالفة لمبادئ وأصول العقيدة الناتجة عن إساءة الفهم أو التفسير أو التأويل المبني على الجهل أو الهوى، والخطباء والدعاة مطالبون بالتعريف بخطورة اختلال الأمن، وما يترتب على ذلك من آثار تضرّ بمصالح الأمة، وتسيء إلى الإسلام، وهكذا المعلمون والإعلاميون وكل فئات المجتمع في حدود قدرته واختصاصه. ورجال الأعمال والأثرياء عليهم تحري المعونات والمساعدات التي يقدمونها حتى لا تذهب إلى أهل الشر والفساد والإفساد.
إن الفرد المسلم أو غير المسلم ممن يعيشون في بلادنا ـ حرسها الله ـ مسؤول عن حماية نعمة الأمن وشكرها، وأضعف الإيمان في ذلك رفض أي أعمال تخريبية أو إرهابية تهدّد بإهدار هذه النعمة، والتعاون مع رجال الأمن ضد كل من تسوّل له نفسه الإقدام على ذلك، وبهذا يتحقّق الشكر العلمي لنعمة الأمن، الذي امتنّ الله - عز وجل - به علينا، وأمرنا بعبادته شكراً له على نعمة الأمن، فقال ـ تعالى ـ : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَأمنهُم مِّنْ خَوْفٍ} (4) سورة قريش.
ويظل الأمن حلم كلّ الشعوب والأمم، من أجله تسن القوانين والأنظمة، وتستحدث الأجهزة المسؤولة عن تحقيق هذه الغاية العزيزة، التي لا تهنأ الحياة بدونها، ولا يطيب مطعم أو مشرب أو نجاح إذا غابت، أو تعرضت لما يعكّر صفوها، أو يهدّد دعائمها.
وفي الأخير وعلى الرغم من الجهود الأمنية الكبيرة والعظيمة في كبح جماع الإرهاب ووأد الجريمة، إلا أن للمواطن دورا حاضرا في كل عمل أمني ـ وفق ما يصرح به المسؤولون الأمنيون ـ حيث تجد الكثير من المعلومات التي تساعدنا في استباق العمل الإرهابي، ونريده أن يستمر، ونحن دائماً بحاجة إلى المواطن، وندعوه للوقوف مع رجال الأمن والتواصل معهم في كل وقت، وأن يترك العملية الأمنية لرجال الأمن للتحقق مما اشتبه فيه المواطن. وللتذكير والتواصل مع رجال الأمن هناك رجال يعملون طوال الساعة على الرقم: (990).
حفظ الله بلادنا وولاة أمرنا ورجال أمننا من شر الأشرار وكيد الفجار، وأن ترد كيدهم في نحورهم.