محمد عبد الرزاق القشعمي
بزيارة خاطفة لأرض الكنانة وقاهرة المعز، قرأت آخر ما كتبته الراحلة رضوى عاشور ولم تكمله، رواية: (الصرخة) -نسبة إلى لوحة الغلاف (الصرخة) لإدفارت مونش التي أعجبت بها والموجودة في متحف مدينة أرهوس بالدانمارك- وهذه الرواية (الصرخة) التي لم تكتمل اعتبرتها الكاتبة الجزء الثاني من سيرتها الذاتية،
إذ سبق أن صدر لها عام 2013م الجزء الأول يحمل اسم (أثقل من رضوى).
وكان أن توفيت رضوى في سبتمبر 2014م دون أن تكملها (الصرخة)، وتركت بعض الصفحات بيضاء، وهذه تذكرني بآخر أعمال الراحل عبد العزيز مشري (المغزول) إذ توفي عام 2000م دون أن يكملها. وقد صدرت كما تركها دون خاتمة.
نعود إلى رضوى وسبب التسمية فهل جاء اسمها نسبة إلى جبل رضوى الواقع بين مكة والمدينة أو إلى الرضاء بما كتبه الله وقسمه، وهذا يذكرني بما حصل للشيخ حمد الجاسر وهو يُدّرس طلابه في ينبع حدود عام 1355هـ ويشرح لهم الجغرافيا وعن جبل رضوى، قال: إنه جبل يقع بالقرب من المدينة تصعده الجمال بسهولة، فقام أحد الطلبة بفتح شباك الفصل ليريه الجبل، مما أخجل الشيخ وآلى على نفسه ألا يتحدث أو يكتب شيئاً إلا بعد التحقق من صحته، ولهذا رأينا المشروع الضخم (المعجم الجغرافي للجزيرة العربية) والذي وقف على كل موقع منه.
سبق أن قرأت سيرتها بجزئها الأول (أثقل من رضوى) بعد وفاتها مباشرة وهذا الجزء الثاني (الصرخة) وجدته قد صدر من دار الشروق بالقاهرة عام 2015م فقرأته متتبعاً مراحل علاجها من سرطان المخ في أمريكا ومصر والدانمارك وصراعها مع المرض ومتابعتها للأحداث في مصر 2011-2014م وتفاعلها مع ما يجري في الشارع واستنكارها لما يقترفه رجال الأمن والمفترض فيهم حماية المواطنين لا البطش بهم، ودخولهم لحرم الجامعة وملاحقتهم للطلبة دون رحمة.
توجه أغلب حديثها للمرأة إلى سيدتي القارئة وتستعيد شيئاً من ذكريات طفولتها وعمن تعلمت منهن واعتزت بهن، وأولهن عمتها عزيزة الشقيقة الوحيدة لأبيها المولودة عام 1919م والتي لم تتعلم كغيرها، ولم تغادر البلدة –بلبيس- إلا كل عام أو عامين لتزور أخوتها في القاهرة أو تعود طبيباً أو تقضي حاجة ضرورية، وعمتها عليّه التي طلبت منها أن تكتب قصة حياته وكانت قادرة على استحضار وقائع مرّ عليها أكثر من نصف قرن.. ولكنها فجأة توقفت قالت: سيغضب هذا الكلام الأولاد، حاولت إقناعها ولكنها لم تقبل.. وعندما قدمت لها كتاب فدوى طوقان (رحلة جبلية.. رحلة صعبة) وهو سيرتها.. وبعد أن انتهت من قراءتها.. سألتها: ما رأيك؟. قالت: أنا رحلتي أصعب!. والثالثة والدتها ميّة التي حكت لها باعتزاز أن مدرستها (حلوان الثانوية للبنات) هي التي سبقت إلى الخروج للتظاهر احتجاجاً على اتفاقية سنة 1936م، والرابعة لطيفة الزيات والتي غدت عضواً في قيادة اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة التي قادت مظاهرات عام 1946م والتي أصبحت فيما بعد أستاذتها عندما أصبحت رضوى معيدة في كلية البنات بجامعة عين شمس عام 1967م.
وقالت إنها عنيدة بالفطرة وتكره أن يفرض عليها أحد ما لا تريده أو تقتنع به. وعن جدتها فاطمة التي كانت تحكي لها عن (هوجت عرابي) ووفاة سعد زغلول وأنها أمية تعين الشهور بأسماء التقويم القبطي. ولا تعرف إلا شهر: رجب وشعبان ورمضان وشوال ورمضان هو الأهم.. فهو شهرها المفضل تنتظره على مدار العام.. فإن هل هلاله تستحمم وتتطيب وترتدي الجديد من ثيابها.. وعند الفراق تودعه بالدموع وتردد في أسى: (يا من درى أشوفك تاني وإلا لأ!).. «تحب رمضان حباً لافتاً، وتتكحل في سبت النور، وتبتهج لسقوط المطر في الغطاس.. وفي ليلة شم النسيم تضع ضُمّة من البصل الأخضر تحت وسادتها وتنام.. ثم تبكّر صباحاً لتطلب من أحد أحفادها أن يلقي بالبصل الأخضر في النيل، تنتهي صلواتها بالدعاء لأبنائها وأحفادها.. ثم يمتد الدعاء ليشمل الأحياء والأموات من الأهل والأحباب.
وهذا يذكرني بما كان استاذنا عبد الكريم الجهيمان –رحمه الله- يقوله عن والدته عندما يكاد ينهي برنامجه اليومي في المشي عند غروب الشمس. فتجده يجلس على عتبة مقابل لمغيبها وعندما تبدأ بالمغيب يردد ما كانت والدته تقوله: (غابت.. غابت.. جعلها ما تغاب لنا بصديق).
وعن أستاذها الفرنسي الذي لا تذكر اسمه ولا عدد سنوات تدريسه لها ولا البلد الذي جاء منه.. فقط تذكر أنه كان يرتدي فوق ملابسه معطفاً قطنياً أبيض كمعاطف الأطباء والممرضين.. والذي كان يسخر من طلبته ويتعالى عليهم وينظر إليهم بأنفة واحتقار كأنهم ذباب سقط في صحن حسائه.
وعن غرناطة –الفردوس المفقود- والتي زارتها أربع مرات وكتبت عنها (ثلاثية غرناطة)وعاينت المكان وعايشته وجمعت ما تحتاجه من مادة تاريخية، وكانت زيارتها الثالثة لإلقاء محاضرة عند صدور الترجمة الإسبانية من الجزء الأول، أما الرابعة فدع وتها للمشاركة في مهرجان أدبي تضمن حواراً معها أعقبه توقيع الترجمة الإسبانية للثلاثية.
تكتب أخيراً وهي تعاني من المرض وما يعانيه الوطن:».. لم تقتلني الأحداث ولكنها أصابتني بالاكتئاب، فاختلت الكتابة وتعثرت ثم انقطعت، ربما يكون التعبير الدارج في العامية المصرية أكثر دقة في وصف الأمر:(طفشت) الكتابة. و (طفش) تعني فرّ وشرد لعدم القدرة على الاحتمال ..».
وهي تذهب إلى المعمل لإجراء فحص الرنين المغناطيسي المقرر إجراؤه بعد ثلاثة أشهر.. نجدها تكتب:».. بامكانك يا عزيزي القارئ أن تسقط هذه الخاطرة، واضعاً في الاعتبار أن رضوى مهمومة إلى حد الإكتئاب.. عليك فقط أن تُذكّرها بما قالته سابقاً: إن توصيل رسائل يأس أمر غير أخلاقي، قل لها أين سلال الأمل التي تحملينها كل يوم؟ هل خلفتها وراءك وتخليت عنها؟!».
عندما صارحها الدكتور –أكمل- في الدانمارك بأن المرض وصل إلى حد لا شفاء منه.. فتصافحه بود وتبتسم وتشكره.. وتفلت منها عبارة أن تفكر في العودة إلى التدخين! «.. فقال مشجعاً.. بإمكانك أن تعودي إلى التدخين إن أردت! فبدت لي الرسالة واضحة.. لا فرق الآن في خطورة التدخين الضار جداً بالصحة.. كان يريد أن يتيح لي ما يسعدني، لأنه لا فرق ..».
وهذا فعلاً ما حصل عندما ذهبت برفقة الأستاذين عبد الكريم الجهيمان وعابد خزندار - بعد زيادرة الرائد عبد الله عبد الجبار في جدة- عام 1419هـ ذهبنا لزيارة عبد العزيز مشري بعيد عودته من أمريكا للاستشفاء وقد قطعت رجله الأخرى من الفخذ وفقد بصره وأصبح كالعصفور مكسور الجناح وصلنا إليه وقد تحلق حوله مجموعة من أقربائه وكل منهم يحمل بين أصابعه سيجارة أو ممسكاً بخرطوم الشيشة.. وكدنا لا نراه من كثافة الدخان، فهاتفت الأستاذ علي الدميني صديق الجميع شاكياً له وضعه وعن خطورة التدخين بالنسبة له.. فقال كلمته التي بقيت في الذاكرة: دعه يستمتع ولو بلحظة فرح.. وهذا يذكرني أيضاً بلقاء وزير الصحة -سابقاً- غازي القصيبي بالشاعر البائس حمد الحجي في مستشفى الصحة النفسية بالطائف - مستشفى شهار- وحواره الممتع معه، وتذكيره ببعض قصائده، وعندما أراد الوزير توديع الحجي قال له أي خدمة؟ فرد عليه الحجي أنه لا يريد سوى سيجارة.