د.علي القرني
مفهوم الفضاء العام الذي وضعه الفيلسوف الألماني هيبرماس ما زال هو النظرية الفلسفية الأولى في تحديد مفهوم وتفسير ظاهرة الإعلام الجديد، بمختلف تنوعاته وأشكاله وألوانه عبر الإنترنت. وهناك مفهومان أو مجالان عادة موجودان في أي مجتمع سواء كان للمجتمع بعمومه أو حتى على المستوى الفردي.
هما المجال العام والمجال الخاص، وكلاهما يرتبطان ببعضهما بعضاً، حيث يفيض المجال العام على المجال الخاص، كما يفيض المجال الخاص على المجال العام في حالات معينة.
وخلال العقدين الماضين دخلنا عصراً جديداً من عصور الاتصال والإعلام، وهو عصر الإنترنت، وهذا يشكل حقبة زمنية استثنائية في حياة البشرية، لما له من تأثير هائل على الحياة العامة لكل فرد ومؤسسة في العالم، وعلى الدول بشكل عام. والجميع يبحث خلال السنوات الماضية عن نظرية تفسر هذه الظاهرة، وكما هي العادة من الباحثين والمنظرين في مجال الإعلام والاتصال أو حتى في الحقول العلمية الأخرى فإن الالتفاتة دائماً هي إلى الوراء، أي النظريات والمقاربات السابقة التي كانت تفسر ظواهر مجتمعية أو اتصالية معينة. وعلى الرغم من هذه الالتفاتة إلا أن نظرية أو مفهوم «المجال العام» public sphere لم تحظ باهتمام كبير في هذا المجال.
ويعرف هيبرماس الفضاء العام على أنه مكان في الحياة الاجتماعية يلتقي فيه الأفراد بحرية كاملة لمناقشة موضوعات ومشكلات عامة في المجتمع، ومن خلال هذه المناقشات يتولد رأي عام يؤثر على القرار والفعل الاجتماعي. كما يمكن أن يشكل الفضاء العام في المجتمعات الحديثة مسرحاً مفتوحاً يعمل على تفعيل المشاركة السياسية من خلال النقاش والحديث بين المواطنين.
وعلى الرغم أن التاريخ يشير إلى وجود تطبيقات لمثل هذا المفهوم في أوروبا خلال القرون الماضية حيث هناك قوى سياسية واقتصادية ومجتمعية تحاول أن تقلص المساحة التي تتاح للناس في مسألة النقاش العام عن موضوعات وقضايا المجتمع، وتحويلها إلى قضايا وموضوعات معينة ذات ارتباط بتلك القوى ويخدم مصالحها في المجتمع. حيث ينظر هيبرماس وغيره من الفلاسفة على أن الفضاء العام هو فرصة متاحة لتنوير المجتمع. وانتقد هيبرماس المجتمعات الرأسمالية التي تحاول أن توظف هذه المساحات لخدمة مصالحها.
ونحن اليوم نعيش في هذه الحقبة التاريخية، وهناك أمور وظروف قد اختلفت عن تلك التي كانت وسائل الإعلام التقليدية هي التي تهيمن على الفضاء العام، فوجود الإنترنت قد فتح مساحات واسعة جداً من المنابر النقاشية التي ليس عليها سلطة لأحد، وأصبح الجمهور أياً كان وبأي هوية ثقافية أو سياسية أو دينية أو عرقية هو الذي يشارك في تلك المنابر التي أوجدها الإنترنت ويتحكم فيها لخدمة مصالحة الخاصة.
والمجتمعات العربية تعيش في هذه السنوات مرحلة جديدة في فضائها العام مع دخول الإنترنت وظهور منتجاته الجديدة كتويتر وفيسبوك ويوتيوب وغيرها من المنتجات الأخرى الاتصالية. وقد فرضت هذه المعطيات التقنية ملامح لظهور وتأكيد ظهور مفهوم «فضاء عام» في كل مجتمع عربي غير ذلك الذي كان موجوداً في العقود الماضية الذي كان يقع تحت تأثير وسائل الإعلام التقليدية، حيث استطاعت تلك الوسائل أن تفرض أجندة الفضاء العام في كل المجتمعات العربية، أما اليوم فقد سحب الإنترنت البساط من تحت وسائل الإعلام التقليدية ولم تعد هي الوحيدة التي تضخ بموضوعات وقضايا تهم الرأي العام. وبات الإنترنت هو المؤسسة الأخطر التي استطاعت أن تعيد الحياة وتنفث في مفهوم الفضاء العام ليستعيد حيويته ووظيفته المجتمعية.
ويشكل الوضع الجديد نوعاً من الخطورة على المجتمعات، حيث يتم بناء أجندات جديدة وأحياناً ليست في صالح المؤسسات المجتمعية كفضاء عام بما يشتمله من موضوعات وقضايا غير مناسبة سياسياً أو اقتصاديا أو دينياً أو ثقافياً أو أخلاقياً، ولكنها تظل موجودة حتى لو أغمضنا عنها العيون. وهذا الفضاء هو مساحة يجب أن تشارك فيها المؤسسات المجتمعية بفاعلية ونشاط لضخ آراء وفكر تلك المؤسسات ضمن الفضاء العام، للدفاع عن مصالح مؤسسية أو وطنية. ونعلم أن هذا الفضاء العام يتم توظيفه من قبل جماعات ومؤسسات ودول ذات تطرف وذات مصالح تتعارض مع مصالح مجتمعنا العربي المسلم، وهنا تكمن الخطورة أن تلك الجماعات والدول الإرهابية أو المتطرفة تعمل بجد وبأقصى إمكاناتها في دعم الفضاء العام المتطرف في مجتمعنا السعودي أو الخليجي أو العربي دون وجود فكر وآليات تسهم في خدمة مصالحنا الحيوية في المجتمع.