د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
قضيت رمضان في مكة، وبعده عدت وذريتي إلى الرياض وبعد أن صمنا ستاً من شوال، طلب أولادي أن أسافر بهم إلى خارج المملكة، ولأول مرة فقلت لهم استهموا على إحدى دول الخليج فقط، ومن يقع عليها السهم نسافر إليها فرمت بلقيس السهم تبلغ من العمر (10) سنوات تقريباً ووقع السهم على دولة قطر، وبالإجماع من (بدران وبرزان وودعان، وأمهم هدى آل طالب) اتفقوا على (عناق الخليج) مثل يوصف به أو يكنى به الأطول من الرجال أو النساء أو سمها بما شئت من الأسماء التي تناسب هذه الدولة الكبيرة في عيني حاكمها، وعيون شعبها.
أحببت السفر إليها مع التحذيرات من عدم مناسبة جوها فوجدتها:
بلاداً إذا زار الحسان بغيرها
حصا تربها ثَقَّبْنَه للمخانق
أعددت العدة المتواضعة وعلى سيارة واحدة وحددت مع هدى وأولادي مدة الرحلة بثلاثة أيام مع لياليهن وجهزت السيارة بما يلزم.
في صباح الاثنين الموافق 25-10-1436هـ الساعة الثامنة صباحاً انطلقت عبر طريق الدمام ثم سِعْد (بكسر السين وسكون العين) طريق مزدوج واسع مريح ثم اتجهت إلى الجنوب الشرقي، وبدلالة الأسهم والأسماء المكتوبة على اللوحات الإرشادية وجهت وجهي إلى قطر. وعند الساعة الواحدة تقريباً دخلت منفذ سلوى (سعودي) وتجاوزته بإجراءات ميسرة تماماً، والحديث هنا ليس عن بلدي وحبي لها وإنما خصصته عن بلدي الثاني قطر وما شاهدته فيها. وعند الساعة الواحدة والنصف تقريباً وصلت إلى منفذ أبو سمرة فقابلتني فتاة متربعة في مكتبها وقالت وبحشمة (يا حياكم الله) وأعطيتها وثائق السفر، وبسرعة كلمح البصر أو أشد، وبعد التدقيق والتحقق أعادت إليَّ الجوازات ومعهن ورقة مختومة ثم قالت وبأدب رفيع: أنتم في بلدكم قطر يا حياكم الله. فتاة حسناء زادها الخلق الحسن حسنا.
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
واصلت السير إلى البوابة الثانية ووقفت عند نافذة المكتب وفيه شابان متمتعان بحيوية ونشاط فالتفت إلي المسؤول عن نافذتي لأن المكتب له نافذتان لكل واحدة مسؤول، وقال: (مرحباً ترحيبة البدو بالسيل) فتبسمت ضاحكاً من قوله، وقلت: سبحان الله. هذه ترحيبة خليجية.
أعجبني ذلك الشاب، في أول شبابه وكأنه في آخر عمره عقلاً ونطقاً وإدراكاً، وناولته وثائقي فأكمل ما يلزم ثم قال: لا تنس دعاء السفر وانتبه للطريق. وواصلت إلى بوابة الدخول (الجمارك) ودخلت في مسرب خاص بسيارتي بين عمودين جميلين وجميع مباني المنفذ جميلة لجمال من يعمل فيها، وبعد قليل قال المختص: استودع الله الذي لا تضيع ودايعه، فحمدت الله وقلت: ربي أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت بها علينا في دول خليجنا وأن نعمل صالحاً ترضاه.
منفذ أبو سمرة هو المنفذ إلى أخلاق أهل قطر، هذا البلد الذي كله خلق في أهله. وخلق في طبيعته وتكوينه، وكأنه قطعة حلوى بين فكي أسْدُهُ (تميم - وحمد - وخليفة) ومن سبقهم من آل ثاني. وقلت سبحان الله: هذا الذي خُلق لا خَلق. ولك تحيتي يا فرزدق حين قلت:
ولا خير في حسن الجسوم وطولها
إذا لم يزن حسن الجسوم عقول
جميل منفذ أبو سمرة كجمال موظفيه (بنين وبنات) مبان أنيقة مرتبة. والجمال كل الجمال لمن يعمل تحت شرفات هذه المباني. فالأخلاق الجميلة تيسر العسير، وتقرب البعيد، تأنس الأنفس بها وتألف وتؤلف. فلا تنفع الحجب المصونة والاستار الكثيفة، والمقاصير المحروسة والسدد المضبوطة إذا لم يحرسها حسن الخلق.
وما حسن الجسوم لهم بزين
إذا كانت خلائقهم قباحا
وبعد اكمال الإجراءات انطلقت مع طريق يحتوي على ستة مسارات واسعة. يفصل بينهم جزيرة في الوسط تتخللها انارة عالية متينة كمتانة واضاءة القطري لبلده قطر، لأن القطري لا يرى أن كل مكان وافقه وطاب به عيشه هو بلده، فبلده الوحيد هو قطر، وأن من سكن قطرهم قومه الأدنون وإن لم يصفوا له في الحب.
والعين تعلم من عيني محدثها
من كان من حزبها أو من أعاديها
فالقطري: يرى أن حبيبته قطر، لا حبيبته التي يحاول التقرب إليها بالموبايلي، أو يجدها على الكورنيش محبة قطر ظاهرٌ أثرها على حياتهم وأعمالهم.
خليلي للبغضاء حال مبينة
وللحب آيات تُرى ومعارف
تابعت السير إلى وجهتنا (الدوحة) وعن يميني وشمالي كالورش العاملة، هذه جسور تشيد وأنفاق تحفر، وزهور تزرع في وسط الطريق وعلى جانبيه. ناهيك عن المباني الشاهقة تنظر إليها نظرك إلى الثريا. هذا الطريق من (أبو سمرة) إلى الدوحة يصل إلى مائة كيلو متر تقريباً عجيب وكل ما عليه عجيب.
حاولت تقريبه إلى القارىء فلم أستطع مع أن القلم بيدي مطاوع، تابعت السير وعلى مشارف الدوحة شاهدت الشركات والمؤسسات العملاقة.
شاهدت باكورة الفنادق والعماير العجيبة في الفن والإبداع، وكأنهن الياقوت والمرجان ولا غرابة في ذلك؛ فبأي نهضة قطر تكذبان وبأي آلاء ربي على قطر تكذبان. أول ما شاهدت الفنادق والمراكز وقد اشمخرت، قال بدران: انظر أبتي كأسياف بأيدي مصلتينا. قلت: نعم، وهل عند أحد منكم تعقيباً على قول بدران، أجابا برزان وبلقيس: وكأن السحاب والضباب وشاح يجلل العماير والفنادق. فالتفت إلى صديقتي أمهم وقالت: لي وربي وقد أبدع خالقها إبداعاً يزري بما أبدعه معبد والغريض، وصلت إلى الدوحة الساعة الثالثة مساء تقريباً واتجهت إلى الفندق المعد لإقامتنا دبليو الدوحة فاستقبلنا عدد من مسؤولي العلاقات من الايطاليين والسوريين، وعلى رأسهم الأخ ياسر سوري الجنسية، والذي رحب بنا بلغة عربية عريقة فصيحة واصطحبنا إلى حيث نقيم (غرفتان جميلتان نظيفتان) في الدور (10) رقمهما (1010 - 1009). تفتحان على بعض، وقال وبنفس راضية مرضية: ادخلوهما بسلام آمنين. ثم انصرف.
وتفوح من طيب الثناء روائح
لهم بكل مكانة تستنشق
جلسنا للراحة. وبعد صلاة المغرب خرجنا للتعرف على المنطقة التي يتربع فيها هذا الفندق العتيق، والذي جعلت له شرفة بارزة على مدخل وكأنها تؤدي التحية للقادم كما يؤديها رجل الأمن لمن فوقه، أخذت الحيطة وتوخيت الحذر خوفاً أن أسلك مساراً آخر. فقالت هدى: ان البناء والفنادق تشابهت علينا. قلت: وإنا إن شاء الله لمهتدون ومما تتميز به الدوحة وكلها (تميز) إن المسار الذي تسير معه لا يدخله أحد. فالسيارات منتظمة كنظم اللؤلؤ المحيط في جيد فتاة. أما أن تتناطح فيه السيارات والسائق هذا يشتم ويسب السائق ذاك فلا فالتنظيم جميل.
والالتزام به أجمل، وقفت عند مركز تجاري عظيم. كعظمة المربع الذي يقع فيه هذا الفندق. فلا بقالات ولا كشكات ولا بائعين ولا بائعات على الأرصفة والزوايا فقط هذا المركز الذي يعجب المتسوقون في طريقة دخوله ومحتوياته وتنظيمه والخروج منه. ثم رجعنا بالسيارة إلى حيث نسكن لأن حبيبتي أم بدران تدلنا بفكرها لا بواسطة جهازها، وبعد أن توقفنا عند باب الفندق فُتِحَا بابا السيارة ونزلنا إلى الفندق، وفُتِّشنا وبواسطة أجهزة دقيقة، على عادة حراس الأمن لأجل سلامتنا وغيرنا، ودخلنا وقلنا جميعاً: بسم الله نسألك خير المولج وخير المخرج وأخذ راحلتنا المختص إلى حيث تقف. ثم توجهت وأسرتي إلى المصعد المخصص بعد الإذن لنا. وفي غرفتي وزوجتي نظرنا إلى البحر الذي تستحي منه لهدوئه، ويستحي منك كأنك ضيفه. بعد استراحة قصيرة توجهنا إلى المطعم الأمريكي في الدور الأرضي، وفيه مطعم إيطالي. وكلاهما مطعمان جميلان في هذا الفندق الذي هو يشبه مبنى المجدَّد أحد المباني الفخمة بقصر قرطبة الأكبر.
أول ما يأخذ ناظريك مبادرة العاملين فيهما إلى حيث نرغب الجلوس فيه. ولك أن تخدم ذاتك، أو يخدمك من يقف خلفك وكأنك باستلامه، بعد العشاء توجهنا إلى الجناح الخاص بنا. وتوكلنا على الله وأسمعت أولادي دعاء النوم: (أسلمت لك روحي فإن أمسكتها فارحمها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) (باسمك اللهم أضع جنبي وباسمك أرفعه) ثم آوى كل واحد منا إلى فراشه.
وعند صلاة الفجر استيقظت وأيقظت أولادي وصلينا الفجر جماعة فعمدت أم بدران إلى القهوة الخليجية التي لا غنى عنها واحتسينا عدداً من الفناجيل مع سبع تمرات:
من قهوة تنسي الهموم وتبعث
الشوق الذي قد ضل في الأحشاء
فحمدنا الله وتوجهنا إلى الإفطار وبعده إلى سيارتنا عند باب الفندق ركبت السيارة وعائلتي الصغيرة في العدد والكبيرة في الحب والفكر، سألني الابن بدران إلى أين أنت ذاهب فقلت إلى حيث ترغبون فقال برزان: إلى كل الدوحة. فقلت: أما هذا فلا، لأنني لا أملك ولا تملك لضيق الوقت وحجم الدوحة فقال ودعان: إلى وسط الدوحة فاتفقت الأسرة على ذلك، فمخرنا الطريق وعلى يمينه وشماله مراكز تجارية عالية تعجب الزوار في بنائها وشموخها كشموخ آل ثاني، وأهل قطر.
وجدت الدوحة غلابة
تهيج للقلب أشواقه
وفي الطريق وحتى لا نضل ولا نشقى وجدت فتاة متحجبة بنقاب ساتر تقود سيارتها (لكزز) فاستوقفتها على جانب الطريق وأضاءت الإشارة وأنا أسير من خلفها حتى وجدت مكاناً مخصصاً للوقوف. وقالت: عذراً لا يجوز أن أقف إلا في مكان الوقوف. تفضل ما تريد فشكرتها وقلت: أريد وسط الدوحة وأجمله. فسهلت علينا الوصول إلى حيث رغبتنا. ثم قالت: أما أجمله فكل قطر جميل. فقلت لها: إنك من قوم تحبون قطر كحب يعقوب ليوسف. ولا تثريب عليكم فقتيل الهوى لا عقل ولا قود.
تابعت السير إلى وسط الدوحة فعجبت وأولادي من طريقة تنظيمه، ونظافته وجماله، شوارعه مرصوفة بما يشبه المرجان. نظيفة كنظافة أهلها، وعشقهم لها عشق صحيح متمكن من نفوسهم كحب مجنون لليلى أو أشد عشقاً لا يفنى إلا بالموت لأن النفس القطرية تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة؛ فالرجل القطري والمرأة القطرية يرى وترى أن كل شيء قطر. فقطر عندهم مقام مستلذ وأرض مشتهاة، لا يود ساكنها الخروج منها ولا يتمنى إلا أن يتغنى بها تزين له ما كان يأنف منه، وتسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى تحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة. يحبون أميرهم حباً جماً، ويأكلون تراثهم أكلاً لمّـا يتغنون به في مجالسهم وأنديتهم.
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجي
يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق
عشق قطر يكون بالمعاينة أو بالوصف، أو بهما معاً وهذا الأخير يترقى منه إلى جميع درجات العشق، فإن للروايات ونعت المحاسن ووصف الأخبار ثم المشاهدة والرؤية ما يجعل في النفس تأثيراً ظاهراً وأن للمشاهدة سبباً من أقوى أسباب الحب وانشغال البال، وما وقع لي مع حب قطر أعظم مما وقع للمحب من الولع في محبوبته، وسماعك لوصف مكان ما أو فتاة ما يكون سبباً للحب واشتغال البال وقد وقع لغير ما واحد.
ومن لا يعرف الحب هو بمثابة بنيان هار على غير أس ولكنه عندي من أعلى درجات العشق، لأن الذي يفرغ ذهنه في هوى من لم ير لابد له إذ يخلو بفكره أن يتمثل لنفسه صورة يتوهمها وعيناً يقيمها نصب ضميره، لا يتمثل في هاجسه غيرها، وقد مال بوهمه نحوها. فإن وقعت المعاينة يوماً ما فحينئذ يتأكد الحب أو يبطل بالكلية. وأنا ممن تأكد الأمر عنده بالنسبة لقطر.
يا ليت شعري من كان وكيف بدت
أطَلْعَةُ الشمس أنت أم أنت يا قطر
أظنه العقل أبداه تدبره
أو صورة الدوحة أبدتها إلي الفكر
أخذت قطر بمجامع قلبي، وشغفه حبها، كنت مجتازاً عند باب سوق واقف فقلت أزوره الآن، أم أخصص له يوماً كاملاً لما قيل عنه، فترجح الأخير عندي وانصرفت إلى الكورنيش. وإذا البحر قد شق أحشاءه تعلوه المراكز التجارية الباسقة، كيلو مترات. فيه كشك واحد كالمشكاة، وفي الجزيرة مراكب كالأعلام لمن أراد رحلة أو أراد شكورا.
هذا الكورنيش العجيب في المنظر والتصاميم، تنزَّهت أنا وأولادي إلى حديقة جميلة تقع على الكورنيش فجُلنا ساعة ثم أفضى بنا القعود إلى مكان دونها يتمنّى فتمددنا فيه، للبصر فيه منفسح وللنفس لديها مسرح. بين جداول تطرد، وأطيار تغرد فوق النخيل والأشجار ثمار النخيل مهدلة قد ذللت للأيدي وتدلت للمتناول، وظلال مظلة تلاحظنا الشمس من بينها فتتصور من بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبجة، وماء من بينهن يوجدك حقيقة طعم الحياة تنساب كبطون الحيات له خرير يقوم ويهدأ وعلى جانبيه، وفي الحديقة المرتبة النظيفة نواوير مونقة مختلفة الألوان تصفقها الرياح الطيبة النسيم وهواء سجسج معتدل لين. وأخلاق جلاس تفوق كل هذا، في يوم جميل ذي شمس ظليلة تارة تغطيها النخيل، والشجر اللطيف، وتارة تتجلى فهي كالعذراء الخفرة والخريدة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار، ثم تغيب فيها حذر عين مراقبة، وكان بعضنا مطرقاً كأنه يحادث الثرى، وذلك لتفكير كان له في قطر. فتداعبت وزوجتي وأولادي حيناً، ثم قلت لك يا قطر من لا يحبك:
فلا عاش إلا في شقاء ونكبة
ولا زال في بؤس وخزي مردَّد
مرَّ بى شاب قطري فاستوقفته وقلت له: مهلاً أتحب قطر، فأخبرني بعظيم بليته بحبها، وقال: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك من أن أكره قطر. ثم تبسم ضاحكاً وقال:
محبة صدق لم تكن بنت ساعة
ولا وَرِيَتْ حين ارتفاد زنادها
يؤكد ذا أنا نرى كل نهضة
تتم سريعاً عن قريب معادها
قلب سبحان الله: وهذا الحب القطري تجده عند كل مواطن خليجي يحب الخليج ككل، وينفرد لبلده بحب من نوع مغاير، فموافقة أخلاق النفس يولد المحبة إذ الغرائز الحساسة كغريزة الحب مسالك إلى النفوس ومؤديات نحوها.
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
جلسنا على الكورنيش، وبجوارنا أسر خليجية ظاهرها الحشمة، هواء لين وكأنه يستأذن ليمر بنا وبالقرب من الساعة العاشرة مساء عادت السيارة إلى حيث نسكن:
تفرق قلبي من مقيم وظاعن
فلله دري أي قلب أشبع
تمر الليالي وتجىء، والدوحة تزداد فتوة ولا تشيب، وعلى عادتنا من البكور في نومنا واستيقاظنا وخروجنا من الفندق خرجنا في حدود الساعة السابعة صباحاً وتوجهت إلى سوق واقف، ووقفت في الأماكن المخصصة للوقوف ودخلت وأولادي السوق. وإذا به يعد من خوارق العادة فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فيه من غرائب الدنيا وعجائبها ما لا يخطر على قلب بشر، جمع بين قديم دول الخليج وجديدها. من لم يره لا يصدق فيه قابلت رجلاً جالساً على عتبة حانوته، وقد نحل وخفيت محاسن وجهه فلم يبق إلا عين جوهرها المخبر عن صفاتها السابقة، وصار يكاد أن يطيَّره النفس. قرب من الانحناء والشجا باد على وجهه، ونحن منفردان فسألته عن السوق، ومتى تم إنشاؤه، فقال: أخي: تجد إجابتك عما سألت عنه في موقع السوق في أنِّتْ ثم بدت عليه أمارات التأثر، فأدركت حب القطريين لقطر، حب لا يبلى ولا ينسى؛ فقطر غايتهم، فإذا بلغها لم يطلب غيرها. فالدنيا عندهم كلها قطر والقطري هو جميع الناس.
سيحي بك السماء ما لاح كوكب
ويحدو بك السفار ما ذر شارق
انصرفت من عند هذا العجوز، الكبير في قلبي وعيني كعظمة هذا السوق. وتجولت مع أولادي إلى الساعة (12) ظهراً مع حرارة الشمس ورطوبة الجو، إلا أنني ومع هذا أحس بسعادة وراحة وكأنني أنظر إليه من السماء الدنيا جمالا لا يستطيع أن يصوره لكم عبد الحميد الكاتب ولا المتنبي. تنظر إلى شوارعه الضيقة المتعرجة، وأسقفه الخشبية ومصابيحه، مهندسه جمع فأوعى، وإن إليه في الابداع للرجعى.
لك يا سوق واقف:
ولو أني أستطيع خفضت طرفي
فلم أبصر به حتى أراكا
ثم سألت آخر يقارب الأول في عمره أو يزيد عليه يكاد لا يعلم من بعد علم شيئاً. فسألته عن قطر أول سني شبابه فقال: يا هذا علينا نحن الخليجيين ان نشكر الله على هذه النعمة حتى لا تحل بنا النقمة. قطر كغيرها من دول الخليج. صحارى مجدبة، وفيافي موحشة، وخرائب منقطعة وشعاب مفزعة بناها وحفظها رجال كالليوث حتى أصبحنا جسداً واحداً بعد أن كنا (أيادي سبأ) مثل يضرب للتفرق والتشتت. قلت في نفسي: نعم والفضل بعد فضل الله لقادة هذه الدول، انظر إلى قطر كل شيء يعجبك فيها محاريبها المنمقة. والمقاصير المزينة التي تشرق إشراق الشمس. إذا زرتها تزهد في غيرها.
تعجب من قطر نهارها هدوء وليلها هدوء مع انتشار والتقاء عمارها.
وأن لسمو أميرها السابق الشيخ حمد فضل التقدم والسابقة عندما قام ببناء الجامع الأم في الدوحة وأطلق عليه اسم جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، يأخذ عقلك بناؤه دهشة وإعجاباً؛ فعلماء خليجنا حاصدون ونحن لاقطون وأنا متفائل سيتبعه جامعان كيبران: جامع شيخ الاسلام ابن تيمية، وآخر لشيخ الإسلام ابن القيم.
رضي الله عنك يا قطر ويا دوحة، وأرضى أمير قطر عن قطر.
أنت يا قطر: إذا نامت العيون وهدأت الحركات سرى الطيف نحوك يا قطر (عاصمتك، ومحافظاتك وأهلك) فلذة الطيف تنسي لذة اليقظة التي لم أتمكن من تحقيقها لضيق وقتي واقتراب عودتي، إن رزقت ببنت سميتها (الدوحة) أو بابن سميته (قطر).
أغارك عليك من إدراك طرفي
وأشفق أن يذيبك لمس كفى
قربت العودة إلى بلدي قرَّة الدنيا وأم الآخرة، عدت وأنا أعانق قطر ورجعت صباح الخميس ما بعد الاثنين الذي أنشأت فيه الرحلة، وأنا أردد فيك يا قطر:
رأيتك في نومي كأنك راحل
وقمنا إلى التوديع والدمع هامل
وزال الكرى عني وأنت معانقي
وغمى إذا عاينت ذلك زائل
فجددت تعنيقاً وضما كأنني
عليك من البين المفرق واجل
في أمن وإيمان يا قطر. وسوف أزورك وأتعمق فيك وبقية دول خليجنا، وأفرد لكل مقالاً بإذن الله.