قاسم حول
لقطة طولها أربع ثوان ربما التقطها ملك هولندا «فيليم الكسندر» أو أي شخص من العائلة الملكية عبر هاتفه النقال للأميرة الهولندية الصَّغيرة «كاترينا - أماليا» وهي تغادر البيت في طريقها إلى المدرسة، بعد أن تأهلت للذهاب إلى مدرستها ما بعد الابتدائية حين بلغت الحادية عشرة من العمر.
غادرت الأميرة الصَّغيرة الدار على دراجتها وانطلقت في طريق الغابة متوجهة إلى المدرسة. هذه اللقطة حصلت عليها إحدى فضائيات هولندا وبعدها بثتها كثير من فضائيات هولندا والعالم. هي لقطة بسيطة ربما التقطها الأب «الأمير» لابنته فرحا بمرحلتها الدراسية الجديدة وربما التقطتها جدتها الملكة «بياتركس» أو جدها الملك «كلاوس». دلالتها ليست في المناسبة ذاتها فاليوم كل الآباء يصورون أبناءهم ومراحل دراستهم ومناسبات أعياد ميلادهم بعد أن دخلت الكاميرا الهاتف النقال، وأصبح كل أب وكل ابن وابنة مصورين بارعين يؤرخون الذاكرة ويحتفظون بها في وسائل حفظ حديثة عبر الحاسوب والشريحة، وأصبحت صور العائلات تحسب بالآلاف ويسهل حفظها وأرشفتها واستذكارها.
اللقطة شغلت الفضائيات لأنّها ابنة الملك الذي لم يرافقها حارس ولم تنقلها سيارة «ليموزيل» فارهة، فهي مثل جدتها الملكة «بياتركس» وجدها الأمير «كلاوس» اللذين عودا الشعب الهولندي على الظهور في الشارع على دراجتيهما وكثيرا ما يركنان الدراجة عند مشجب الدراجات ويدخلان «السوبر ماركت» ليشتريا قطعة من أجبان هولندا أو باقة من الورد من حقول هولندا.
ماذا سأقول وأنا مخرج سينمائي «مقيم بهولندا في مدينة لاهاي» التي تلقى فيها الأمير «فيليم» دراسته الأولى طالبا كان يذهب هو الآخر على دراجته للمدرسة.. كم من الدروس تعلمتها، لم أتعلمها في أوطاني حيث يصعد ناس من سقط المتاع إلى سلم السلطة ويخربون الحياة ويخربون المجتمعات، وقد شاهدت قبل فترة موكبا لرئيس البرلمان العراقي وقد تم إخلاء الشارع السريع كي يمر موكبه فيه، واستغرق مرور السيارات المرافقة خمس عشرة دقيقة أمام الكاميرا وهي تسير بسرعة فائقة، ولم أصدق ما شاهدته والشارع خال من السيارات سوى سيارات موكبه ولا تعرف سياراته من بقية السيارات المموهة بشكل متشابه! «يمكن مشاهدة الموكب في اليوتيوب فقط عند كتابة موكب رئيس البرلمان العراقي في زيارته لمدينة النجف».
هذا المشهد شكل قمة الأسى في وجداني، واليوم يتجسد الأسى أكثر متذكرا هذا المشهد وأنا أشاهد ابنة ملك هولندا الصبية «أماليا» تخرج من دارها متوجهة نحو المدرسة على دراجتها وحدها في الغابة!
ما عرضته شاشة التلفاز الهولندية والمذيعة تبتسم فرحا، بأن الأميرة القادمة للبلاد ستنشأ متواضعة تشعر بإِنسانيتها وأنها تشبه الآخرين ولا تختلف عنهم، لأنّها مواطنة قبل أن تكون أميرة أو ملكة!
هذا التصرف هو تصرف تلقائي وليس مفتعلا. لا يريد أن يدعي أمير هولندا التواضع لأنه متواضع أصلا ولا يريد أن يدعي المواطنة لأنه مواطن أصلا ويشبه بقية المواطنين. هذا السلوك المتواضع أخاله سلوك العائلة المالكة فالعائلة في البيت وفي علاقاتهم في المطبخ وفي الحياة الاجتماعية مثل أية عائلة هولندية تحكمها العلاقات الإِنسانية ولا يحكمها البروتوكول الملكي ولا الفخفخة الملكية، فأنا لم أشاهد الملك يمشي على سجادة حمراء ولا يمكن أن يمشي على سجادة خضراء لأنه ممنوع أن يدوس على الزرع في هولندا! بل يمشي على إسفلت الشارع مثله مثل بقية المواطنين، فهو ليس «حاكما» بل هو «محكوم» بالقيم ومحكوم بالأصول ومحكوم بنسيج العلاقات الاجتماعية، وبعد ذلك فهو يدفع الضرائب ويرسلها إلى مديرية الضرائب الهولندية ويدفع فاتورة الكهرباء والماء والغاز وقد أدَّى الخدمة الوطنية في البحرية الهولندية.
وحتى اللقطة ذات الثواني الأربع التي ربما التقطها الأمير لابنته لم تبث بدافع الادعاء بالتواضع بل هي لقطة ظريفة اعتبرت لقطة نادرة لابنة أمير البلاد عرضها التلفزيون ومذيعة الأخبار تبتسم أن ابنة الأمير تجيد قيادة الدراجة الهوائية وتذهب وحدها إلى المدرسة عبر الغابة.
اللقطة لم ترسل من الأمير للقناة التلفزيونية بل إن القناة تمكنت من الحصول عليها معتبرة إياها سبقا صحفيا ربما فاجأت الملك بعرضها من على الشاشة.
بقي أن نعرف أن ورادات هولندا من الورد أكثر من واردات العراق من النفط!
وبورود هولندا التي تضفي جمالا على الحياة، تم من وارداتها بناء أعظم بلد في العالم من ناحية النظام والخدمات الصحية والاجتماعية، مملكة تكاد أن تكون خالية من الأخطاء، مملكة شغلت كاميرا موبايل أميرها شاشات التلفزة أنه التقط لابنته مشهداً وهي تنطلق في دراجتها وسط الغابة ذاهبة نحو المدرسة. هذا الأمير يمكن أن يعمر في الحياة طويلا لأنه مواطن ويسكنه الشعور بالمواطنة ونستطيع أن نقول عنه ما قاله الشاعر «باق وأعمار الطغاة قصار»!