د.عبد الرحمن الحبيب
اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) المنبثقة عن الأمم المتحدة لها دراسة عنوانها «الطبقة الوسطى في الدول العربية قياسها ودورها في التغيير»، موضحة أن الطبقة الوسطى شهدت استقراراً في السابق، لكنها تواجه حالياً في أغلب البلاد العربية غير النفطية تهديداً لوجودها..
في نفس الوقت، تواجه أغلب الدول العربية غير النفطية أزمة مشروع الدولة الذي تمثّل مظهرها الخارجي بهزة ما سمي «الربيع العربي» وتبعاته المأساوية.. فما هو محركها الدفين؟ لعل التحول التدريجي للشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة، ورؤيتها لمستقبل متدهور جعلها تشعر بمقولة ماركس: «تمرد فليس لديك ما تخسره!» لكن الذين تمردوا خسروا ما ليس بالحسبان: الأمن والأمان! فكيف بدأت الحكاية؟
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وخروج المستعمر من البلدان العربية بدأ فيها تطور تدريجي واعد بتحسن مستوى المعيشة مرتبط بإشاعة التعليم المجاني والرعاية الصحية والإسكان ومشاريع البنية التحتية. كان هناك إعادة لتوزيع الثروة الوطنية بطريقة تبدو حديثة المظهر.. الطبقة الفقيرة تتقلص مقابل نماء الطبقة الوسطى، كان الأمل مُشعاً من الناحية المعيشية..
لكن أغلب الدول العربية ركزت على البعد السياسي والأمني، أما التنمية الاقتصادية فلم تكن من الأولويات! لذا واجهت الدول العربية غير النفطية طريقاً وعراً وبعضها مسدوداً في التنمية.. فإذا كان خريجو الجامعات والمعاهد تعوَّدوا على ضمان فرصهم الوظيفية، فلأن هياكل الدولة العربية الناشئة كانت بحاجة ماسة للكوادر الوطنية وأصحاب الشهادات بغض النظر عن مدى كفاءتهم.. كان هناك ما يمكن تسميته بداية إعمار بإمكانية هائلة للتوظيف في بادئ الأمر. ولم يكن التخطيط التنموي للدولة يشجع مؤسسات المجتمع المدني ولا القطاع الخاص إلا أحياناً على الورق. بينما كان مفهوم «التنمية المستدامة» غير مطروق لتدني مستوى الوعي التنموي آنذاك، حيث كان الخطاب السياسوي هو المهيمن.
الآن يواجه الخريجون الرفض عندما يقدمون طلباتهم للتوظيف، ليس فقط لندرة الوظائف، بل لأن المتاح في سوق العمل يتطلب كفاءات مهنية وليس حملة شهادات بلا كفاءة أو مهارة. أيضاً كان للمحسوبية المرتبطة بفئة اجتماعية (عشائرية، دينية، مناطقية) وليس بالطبقة الاجتماعية ولا بمؤسسات المجتمع المدني، دوراً حاسماً في الاختيار للتوظيف مما سهل الفساد الإداري أكثر من الفساد المالي.
خلال بناء الدولة في كثير من المناطق العربية، تشكلت جماعات اجتماعية نخبوية من التكنوقراط والبيروقراط والخبراء والمثقفين كرديف للطبقة الحاكمة أو كجزء منها، وسيطرت على الأجهزة الإدارية. وفي كثير من الحالات سيطرت على القنوات الاقتصادية كصانعة قرار اقتصادي. وانخرطت هذه الجماعات داخل المجتمع من خلال فئتها الاجتماعية التي تنتمي إليها، لتقوم بخدمة ودعم توجهات الدولة داخل فئتها الاجتماعية وليس داخل طبقتها الاقتصادية الاجتماعية (الوسطى) التي تتطلب الكفاءة والمهارة المهنية..
هذا يعني أن العمل التحديثي في هذا الجانب كان بأدوات تقليدية لا تناسب التنمية الحديثة.. أي أن الاقتصاد السياسي للبلد اعتمد على المفهوم الفئوي (الأوضح مثال لبنان)، حيث تم فرز فئات اجتماعية مستفيدة وفئات متضررة، مما سيكون له دور لاحقاً في الاستقطابات في مكونات المجتمع في بعض الدول العربية، كالطائفية والمناطقية والعشائرية، وليس الطبقية بمفهومها الحديث. فإذا قسمنا الطبقة الوسطى إلى شريحة عُليا ووسطى ودنيا، فإن توسع هذه الطبقة كان غالباً في شريحته الدنيا. هذا يعني أن تلك الشريحة كانت أصلاً على حافة الهبوط ولم يكن صعودها متأسساً على قواعد اقتصادية صلبة. وهي الآن بدأت بالفعل تعاني من الانكماش والتوجه مرة أخرى نحو الفقر.
المؤسسات التقليدية (الدينية والاجتماعية والتجارية) لم تتطور بما يكفي لتتوافق مع المستجدات؛ في حين أن المؤسسات المدنية الحديثة فشلت في الغالب، فخطاب التيارات الحداثية بصيغته الليبرالية أو اليسارية أو القومية كان يعاني من نخبويته وابتعاده عن الجماهير. مقابل ذلك ملء الفراغ اليمين الديني المتطرف (سياسياً وطائفياً) عبر شحن عاطفي شعبوي. أضف إلى ذلك، نجاح اليمين الديني المتطرف في براجماتية مفرطة باستغلال العمل الخيري الشعبي، وفي العمل التنظيمي تحت غطاء الدين الذي أتاح له هامش حرية ومرونة في الحركة رغم مركزية الدولة التي تستطيع منع المؤسسات المدنية الحديثة، لكن لم يكن باستطاعتها التدخل في العمل الخيري بغطائه الديني..
وسواء اعترضنا أو اتفقنا على ما تقدّم أو بعضه، فإن السؤال: ما هو الحل؟ لحل هذه الأزمة، تقترح الدراسة - المشار إليها في المقدمة - إشراك الطبقة الوسطى في صنع السياسيات، مؤكدة أنه السبيل الوحيد لضمان استدامة التوجه إلى الأمام وإلى مستقبل أفضل لهذه المنطقة. وترى الدراسة «أن الطبقة الوسطى تملك المفاتيح الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية للتحولات التي طال انتظارها، وأنها الكفيلة بتحقيق السلم والازدهار الحقيقيين».. (د. توفيق قريرة).
ما الذي تفعله بعض الدول العربية غير النفطية للحل؟ بعضها لم تفكر بالحل الاقتصادي، بل صارت رهينة العمل الأمني تقوم بتيسير الأعمال كل يوم بيومه.. بعضها اعتمدت على تحويلات مواطنيها في دول المهجر، خاصة من دول الخليج العربي، وعلى السياحة التي ليست إلا رديفاً اقتصادياً لا يمكن التعويل عليها في أسس البناء الاقتصادي.. وفي أغلب الحالات كان دعم التنمية عبر الطبقة الوسطى وصقل الكفاءات المهنية بعيد المنال..
إذا كان ذلك بعيد المنال والمنطقة العربية تعاني من أعراض مرضية حادة، فهل الطريق مسدود؟ يقول المفكر جرامشي لمثل هذه الحالات: «القديم يموت والجديد لا يمكن أن يولد. وفي الفترة الفاصلة ستظهر مجموعة كبيرة من الأعراض المرضية».. لكن، لعلنا نتفاءل بمقولة فوكوياما التي ختم بها آخر أطروحاته عن انكماش الطبقة الوسطى عالمياً: «البديل موجود هناك، في انتظار أن يولد».
حالياً، شرائح اجتماعية متنامية تواجه الفقر دون أن ترى حلاً من جانبها، بل تنتظر الحل يهبط من قمة الهرم السياسي، فماذا عساه أن يفعل؟ وماذا عسى الجماهير أن تفعل؟ الاعتراض، الاحتجاج، اللجوء للعنف، احتقار المؤسسات المدنية الحديثة، فضلاً عن احتقار مؤسسات الدولة العميقة.. واللجوء للمؤسسات الدينية المسيسة.. تكفير الدولة والمجتمع.. كلها لا تعالج المشكلة إلا كما يعالج المريض مرضه بالصراخ! فأعمال المتطرفين هي أعراض للمرض لا علاقة لها بعلاجه.. ابحث عن استقرار الطبقة الوسطى...